بعض من دروس التجربة المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

النموذج الذي قدمته وتقدمه مصر، منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، يستحق من المفكرين والسياسيين في الحكم وفي المعارضة، البحث المعمق والموضوعي، لاستخراج دروس من مستوى استراتيجي وتاريخي، تفيد الأمة العربية في سعيها وراء النهضة والتقدم، وبلورة مكانة تليق بها وبدورها بين الأمم المتحضرة والفاعلة في تطور البشرية. أول هذه الدروس، يقول بأن الدول والمجتمعات تستمد مناعتها، أو ضعفها وهشاشتها، من داخلها أساساً.

لقد ولّى إلى غير رجعة زمن الاستعمار، وقهر الشعوب بالقوة المسلحة، خصوصاً بعد سلسلة الحروب الفاشلة وباهظة التكلفة، التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، والتي أعطتهم نتائج عكسية. تستطيع الولايات المتحدة تحقيق انتصارات عسكرية في حروب تشنها على دول ضعيفة، لكنها لا تستطيع تحويل تلك الانتصارات إلى سياسات وأوضاع تحقق لها المنافع والمكتسبات التي أرادتها حين قررت شن تلك الحرب.

مصر اليوم تواجه تحديات حقيقية، حيث تحتشد الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، بهدف إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن كل هذا الاحتشاد يتحول إلى عملية نحيب جماعية، وحسرة على الماضي، في ضوء صلابة الموقف والوضع المصري، وفي ضوء صلابة وقوة الموقف العربي، الذي تتقدمه وتقوده المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

الموقف الأميركي مرتبك، والولايات المتحدة خاسرة في كل الحالات، فإن هي أوقفت المساعدات المتواضعة لمصر خسرت كثيراً، وخسرت معها إسرائيل، وإن هي نافقت للمصريين، فإنها ستكون خسرت مخططاتها وأحلامها، وخسرت حلفاءها الذين راهنت عليهم للعب دور أساسي في تنفيذ تلك المخططات على مستوى المنطقة.

ثاني هذه الدروس، هو أن العامل الذاتي الذي يحقق المناعة، أو يشي بالضعف والهشاشة، يقصد به، كما تشير التجربة المصرية، دون إغفال تجارب أخرى بالطبع، مدى تماسك المكونات الأساسية للمجتمع المصري، وعناصر السيادة التي تشكل أركان الدولة الوطنية.

لقد راهنت الولايات المتحدة على جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم من الجماعات الإسلامية الأخرى، وهذه بدورها فقدت القدرة على الحساب وتملكها الغرور، فوقعت في شرور سياساتها وأفعالها، ولم يمض وقت طويل حتى خذلت شقيقاتها وحلفاءها في الداخل والخارج. لقد اتضح أن الشعب هو صاحب الإرادة والقرار، ومنه ابتدأت رحلة التغيير، فتوحد معه الجيش الوطني، وأجهزة الأمن والشرطة، والقوى الثورية والوطنية، التي تضررت خلال عام من حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.

حين تتوحد كل هذه المقومات السيادية والشعبية والسياسية، لا تنفع في رد الفعل الثوري أي قوى أو أحزاب وحركات، مهما بلغت من القوة. كانت جماعة الإخوان في مصر هي التنظيم الأكثر شعبية، والأكثر قوة وإمكانات، لكنها اليوم تعاني من هزيمة تاريخية كبرى، تتسع تداعياتها لتطال كل أفرع الجماعة على المستوى الدولي.

ثالث هذه الدروس، يتصل بمدى وعي القيادات السياسية، أية قيادة سياسية، لأهمية اتخاذ القرار المناسب في الوقت والظروف المناسبة. لقد تحدث تفصيلاً الفريق أول عبد الفتاح السيسي، عن الفرص التي أزهقتها جماعة الإخوان. وحتى لا نطيل، يكفي القول إن الجماعة كان بإمكانها أن تتخذ القرار الصحيح، بعد خروج الملايين من المصريين إلى الشوارع في 30 يونيو المنصرم.

لكن الغرور أعماهم عن رؤية وفهم لحظة الحقيقة. وكان بإمكانهم بعد ذلك، أن يأخذوا بخيار التكيف والاستعداد لجولة مقبلة، قد تقدم لهم فرصة أخرى، لكنهم ركبوا رؤوسهم واختاروا العنف والمجابهة والتحدي، فكانت الخسارة هي النتيجة الحتمية، وكان الثمن الذي دفعوه باهظاً جداً.

إن عالم اليوم هو عالم الشراكات، وليس عالم الإقصاء، وهو عالم احترام حقوق الشعوب وحرياتها، وليس عالم القمع.

رابع هذه الدروس، هو ما يتصل بالإرادة العربية، ففي قضية مصر، وقضايا قومية أخرى، فإن الدول والشعوب العربية، التي وقفت بشكل قوي وحاسم، ومنذ اللحظة الأولى مع مصر، وقدمت لها الدعم المادي والسياسي، قامت بدور تاريخي حقيقي لحماية مصالح الأمة وحقوقها.

إن الانحياز للمصالح القومية حين تعلو على مصالح الآخرين، يولد طاقة للتحدي تستنفر إمكانات الأمة، وهي إمكانات كبيرة بالقدر الذي يمكنها من فرض إرادتها على وتغليب مصالحها.

إذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فإن جماعة الإخوان في مصر تعرضت منذ نشأتها إلى ثلاث لدغات قاتلة، في عهد الملك فاروق، وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وفي الزمن الحاضر.. وإذا كان المثل الشعبي يقول إن "من يجرب المجرب عقله مخرب"، فماذا يمكن أن نقول في العقل الذي يدير السياسة الأميركية؟

 

Email