مع حلول شهر أكتوبر من كل عام، تهل على مصر والأمة العربية ذكرى نصر أكتوبر المجيد، وهي ذكرى لا نغالي أو نماري إن قلنا إنها شكلت لحظة تنويرية حقيقية شبه نادرة في تاريخ العرب الحديث.
والشاهد أنه عندما تحتفل مصر هذا العام بمرور أربعة عقود على هذا النصر الغالي، فإنها تتذكر أولئك الرجال الأمجاد الذين نتوق لأن نجعل من تراب أرجلهم كحلاً لعيوننا، وفي المقدمة منهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
وبالتوازي مع انتصارات أكتوبر، فإن مصر تحتفل هذه الأيام بتحررها من عبودية داخلية وتصحيحها لمسار ثورة ضلت طريقها، وبعودة أشقائها العرب إليها وعودتها إليهم، رغم محاولات البعض قطع هذا الطريق، الأمر الذي يدلل وبكل قوة على أن الوشائج القومية العربية موجودة، لكنها ساكنة كامنة تنتظر مناسبة لتظهر في الضوء.
أربعة عقود مرت منذ تلك الأيام حين كان "زايد الخير" في زيارة لبريطانيا يوم اشتعلت الحرب، وما كان منه إلا أن قطع الزيارة عائداً لبلاده لمشاركة أشقائه العرب غمار معركة تحرير الأرض، وكان قبل العودة قد عقد مؤتمراً صحافياً في لندن، أكد فيه على دعم بلاده لدول المواجهة ووقوفه إلى جانبهم بكل حزم وحسم.
اعتبر زايد أن "النفط ليس أغلى من الدم العربي"، ولم يكن دعمه لمصر مالياً فقط، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما شدد على أنه: "عندما تفتح أفواه المدافع سوف نغلق على الفور صنابير النفط ولن نكون بعيدين عن المعركة".
بعد 30 يونيو المنصرم لم يكن التاريخ يعيد نفسه على صعيد العلاقات المصرية الإماراتية، وإنما كان يقلب صفحة جديدة من صفحات نهر الحب الخالد، الذي حفره زايد ليصل بين البلدين.
يطول المقام حال أردنا الحديث عن أوجه التعاون والدعم الإماراتي لمصر حتى تنتصر في معركتها الأحدث مع الإرهاب، وفي مواجهة مؤامرات إلقائها في جب الأصولية الظلامية، غير أن ما يلفت النظر هو أن الدعم لم يكن مادياً فحسب، على أهميته، بل كان كذلك أدبياً ومعنوياً، إعلامياً وثقافياً..
كيف ذلك؟
قطعاً يمكن لصانع القرار السياسي في الإمارات أن يفعل ما يشاء على صعيد التوجيهات الرسمية الاقتصادية والسياسية، غير أنه عندما يبادر الإماراتيون، وخاصة أهل الفن والثقافة والأدب منهم، إلى كتابة أوبريت وتلحينه وغنائه وتقديمه على الشاشات العربية في حب مصر، فإن الأمر هنا يتجاوز الرسميات إلى الوجدان الشعبي الذي لا يكذب ولا يتجمل إذ لا أحد يرغمه، والإبداع دوماً نتاج حب وحرية، لا كراهية وعبودية.
"هذي مصر" أوبريت تتجاوز قيمته لدى المصريين مليارات الدولارات، لأنه يظهر تكاتف الجهود الإماراتية لإنتاجه، متضمناً رسالة سامية فحواها السلام والاستقرار، وطريقها مضيء بمشاعل الضوء الساهر على ضفاف نهر زايد، الذي أوصى الإماراتيين على مصر وعلى محبتها والوقوف بجانبها مهما كلف الأمر.
"هذي مصر" ليس أوبريت غنائياً لمجموعة من الفنانين والمبدعين، بل هو حالة تواصل إنساني إماراتي مع المصريين، ترمي لرفض الاستدراج إلى مكامن الأحادية الدينية المزيفة. تقول الصوفية "إن مداواة مجروح خير من الانخطاف بالروح"، وليس أجمل أو أبدع من الكلمات التي كتبها الشاعر الإماراتي "سعيد الكتبي"، في طريق المداواة النفسية لجراحات المصريين، والتي يصر نفر على نكئها صباح مساء كل يوم.
والثابت أنه ما بين الدعم الأدبي والمادي الإماراتي للأشقاء في مصر، يجد المرء أسئلة كثيرة تطفو على سطح الأحداث، ليس آخرها: هل الوحدة العربية مجرد شعار أجوف يتردد منذ نكبة فلسطين أم واقع حي معاش يمكن ترجمته متى وجدت الإرادة السياسية عند العرب بالفعل؟
قبل مائة عام، أي في 1913، كانت بدايات الدعوة للقومية العربية وإرهاصات الوحدة العربية تتخلق في الرحم العربي، في مواجهة سوداوية المحتل العثماني الذي كان سبباً رئيساً في تأخر العرب لقرون طويلة.
والمثير أنه بعد مائة عام نجد صحوة عربية مماثلة في مواجهة احتلال من نوع آخر، هو مزيج بين احتلال الفكر والعقل بالرؤى المكذوبة، وبين الغزو المسلح الحقيقي براً وبحراً وجواً.
هل هي مأساة سيزيفية يتعرض لها العرب كل مائة عام؟ وهل كتب عليهم التنبه لفوائد الوحدة العربية وحتميتها تحت شرط الاحتلال والخوف من الآخر الذي لا يريد لهم الخير؟
أسئلة مفتوحة في حاجة إلى إجابات فورية من أمة العرب، قبل أن يتحول الحديث عن "سايكس ـ بيكو" الثانية إلى حقائق على الأرض.
ما فعلته مصر في الثلاثين من يونيو المنصرم كان له عميق الأثر في إفشال أو، على أضعف تقدير، إيقاف وتأجيل هذا السيناريو البغيض، سيناريو تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وحتماً أن الدعم العربي من الأشقاء لمصر، وفي مقدمتهم الإمارات العربية المتحدة، كان دعماً أساسياً وسنداً جوهرياً في زخم ثورة المصريين، دون خوف من ترهيب أو ارتهان لترغيب.
تظهر الأزمات في كل الأوقات معادن الرجال، ومن فوائد الشدائد ومِنَح المِحَن علو أهل الحق ودنو أهل الباطل.. إنها حركة الشعوب وقواها الناعمة، وخاصة إذا كانت قائمة على أسس قوية ومبنية على قواعد راسخة.
هل على الشعبين العربيين في مصر والإمارات التنبه لخطر ما؟
حتماً هناك خلف الأبواب من لا يروق له إحياء حلم الوحدة العربية، الشعبوية والنخبوية على حد سواء، بل ويعمل على وأدها في المهد إذ تهدده اليوم وغداً، وعليه يبقى الحذر واجباً، والعمل على جعل نهر زايد صافياً رقراقاً في الحال والاستقبال.