في خضم المعارك الطاحنة في سوريا، نقلت لنا إحدى القنوات الفضائية صوراً لثوار سوريين وهم في شقة بدأت بعض حيطانها منهارة. ولعل هذه الصورة ليست بغريبة في بلد تمزقه الحرب منذ أكثر من سنتين، فآثار الدمار شاهدة للعيان في الأبنية والشوارع والبيوت والمصانع والأسواق والساحات والحدائق وغيرها.
وتقدير هذه الخسائر سيتولاه الاقتصاديون بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهي حتما بعشرات المليارات من الدولارات إن لم تفق هذا الرقم كثيراً. ولا نريد أن نُذَكر بعدد القتلى، إذ أصبحت كل أسرة سورية ثكلى بأحد أفرادها وفي مرات كثيرة بأكثر من ذلك، ناهيك عن الآلاف المؤلفة من الجرحى.
نعود إلى الصورة التي يظهر فيها الثوار والحيطان المنهارة، حيث يظهر شيء آخر من مأساة الحياة السورية. فهذه الشقة لعائلة تركتها طلباً للسلامة إلى أماكن آمنة داخل المدينة أو ربما إلى مخيمات اللجوء في دول الجوار، لكن ما ظهر من حياة أهل تلك الشقة ثيابهم المعلقة في الخزانة، وصور أفرادها الموضوعة على الطاولات الصغيرة، وألعاب أطفالهم، وأثاث مبعثر وغيره مما تقتنيه أي أسرة.
تخيلت صاحب الشقة، وهو مختبئ في المدينة أو لاجئ وقع بصره على شقته وهو في المخيم، ينظر إلى ما بنته يداه خلال سنوات عمره من شقاء وتعب وجهد مبذول وتوفير لكي يُكَوَّن أسرة تشاطره رحلة الحياة، ولكي يكون لتلك الأسرة مسكن تأوي إليه، وها هو يرى كل ما بنته يداه يتهاوى ويخرج من هذه المأساة وهو يحمد الله على أنه ما زال على قيد الحياة!!
وربما قائل يقول، وما قيمة هذه الشقة إلى جانب الخراب الذي عم البلاد، فالمصيبة قد طالت الجميع ووقعها أخف حينذاك!! بل ما قيمة هذه الشقة وغيرها من الممتلكات الشخصية إلى جانب الأرواح البريئة التي زهقت في هذه الحرب، وغالبيتهم لم يشاركوا في المعارك الفعلية بل كانوا ضحايا لقصف النظام العشوائي. ونقول: أجل سيبني الشعب السوري بلده حينما يتخلص من النظام الاستبدادي الجاثم على صدره، والأرواح التي زهقت هم شهداء عند ربهم يرزقون.
لكن، هذه الصور وأمثالها ستبقى في ذاكرة السوريين، فالحرب ليست تدميرا للمباني والمنشآت وقتل الأنفس البريئة وغيرها، إنها أيضاً ذاكرة مرة تترسب في الوجدان، وجدان كل من عانى من آثارها، وهو ما ينطبق على جميع الشعب السوري تقريباً.
الترسبات النفسية للحرب، من عداء ومرارة وكره ورغبة في الانتقام وأخذ الثأر، ناهيك عن الأمراض الكثيرة مثل "الفوبيا" وغيرها. وهذه الأكثر ديمومة ويتناقلها الأجيال وتروى عنها الحكايات.
مأساة أخرى تنقلها لنا مشاهد مؤلمة من خلال شاشات الفضائيات، وهي للسوريين الذين طلبوا السلامة، فلاذوا بمعسكرات اللجوء في دول الجوار، إلا أن دول الجوار تلك لم تكن مطمح آمالهم. فركبوا البحر يبتغون أوروبا في سفن متهالكة ليتعرضوا لأبشع أنواع الاستغلال من "تجار البشر"، وليسقط منهم المئات غرقى أمواج البحر المتلاطمة. وما أصعب منظر طفل ينادي أباه لإنقاذه من الغرق والأب عاجز حتى عن إنقاذ نفسه.
من بين هؤلاء اللاجئين البؤساء وقعت عيناي على أشدهم بؤساً وشقاءً!! إنه فلسطيني في الثلاثينات من عمره لا يملك من حطام الدنيا سوى عافيته وقوة ساعديه، لكن مأساته مركبة، فقد نزح جده إلى سوريا في عام النكبة، وعاش والده يتطلع إلى فلسطين ويحلم بالعودة إليها إلى أن جاءت النكسة، والتي حملت النقيضين: التشاؤم والتفاؤل. التشاؤم من هزيمة الجيوش العربية ومن ثم ضياع فلسطين، والتفاؤل بظهور المقاومة الفلسطينية التي ستحرر فلسطين. وها هو ابنه يركب البحر لاجئاً مرة أخرى، بعد أن شهد أسلو وفشلها، وتشرذم القوى الفلسطينية وحرب غزة وغيرها.
ليست هذه هي كل المآسي الواقعة على أرض الشام، فربما كانت تلك بعضاً منها مما التقطته عدسات مراسلي الفضائيات الجسورين، وبقت صورها في ذاكرتي لتعبر عن لوحة ناقصة بقيتها مآس أكثر إيلاماً لم تصلها عدسات الكاميرات من قتل ونحر واغتصاب وأشلاء ممزقة، ونساء ثكلى وأطفال أيتام وشيوخ يتضورون جوعاً وغيرها الكثير.
وقانا الله شر الفتن والحروب، فخير لنا أن نحقق ما نريد تحقيقه سلماً بعشرة أعوام، من أن نحققه بيوم واحد من الحرب.