أربعة عشر قرناً منذ دخل الإسلام مصر لم تهدم كنيسة أو دير، ولم تنتهك بيعة أو صومعة، إلى أن ظهرت الجماعات الأصولية المسلحة بأشكالها المختلفة، والتي خرجت جميعها من رحم جماعة الإخوان المسلمين.

في هذا السياق لم يكن غريباً أن تتعرض إحدى كنائس أقباط مصر إلى إطلاق رصاص عشية احتفالهم بعرس، ليسقط أربعة قتلى ونحو ثمانية عشر مصاباً. بدا المشهد ساعتها أقرب إلى الأفلام السينمائية، لا سيما أفلام العنف والأكشن، إذ أغلقت سيارتان الطريق، وفي أقل من ثلاثين ثانية كان حامل السلاح المدرب يطلق دفعة من رشاشه الآلي، لتتلقى مريم ذات الثمانية أعوام ثلاثة عشر رصاصة في جسدها النحيل، ما دعا الجميع لترديد الآية القرآنية الكريمة «بأي ذنب قتلت»، إلى جانب جدتها وقريباتها.

هل كانت مذبحة أقباط الوراق حادثة إرهابية عشوائية أم بداية لمسلسل عنف ممنهج تم الاتفاق عليه، في سياق السعي المستميت لإفشال الدولة المصرية بعد سقوط دولة الإخوان وحكم مرسي؟

قبل الجواب يتعين علينا الإشارة إلى أمرين يمثلان العمود الفقري للدولة المصرية، وحال إصابة أحدهما أو كليهما إصابة بالغة، يصاب الجسد المصري كله بالشلل التام، الأول هو مياه النيل التي تتعرض اليوم لدسائس ومكائد في حاجة لحديث منفصل.

والأمر الثاني هو الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي المصري بين الأقباط والمسلمين الذي يتلقى طعنات غادرة منذ فترة.

يتساءل المرء هل كان على الأقباط دفع ثمن تقوية هذا النسيج أخيراً؟

الشاهد أن ما جرى في الثلاثين من يونيو المنصرم من تضامن لأقباط مصر مع مسلميها في احتجاج واحد على حكم الإخوان، ولاحقاً مشاركة بابا الأقباط مع شيخ الأزهر في بيان إقالة مرسي، اعتبر من جانب علماء الاجتماع لحظات تنويرية مصرية تشدد من عزم هذه السبيكة الاجتماعية، في حين نظر الإخوان للأقباط على أنهم بذلك أضحوا خونة مصر وعليه يتوجب عقابهم.

ذهبت مخططات الإخوان وتصريحاتهم العلنية طوال فترة اعتصامي رابعة العدوية ونهضة مصر إلى ضرورة إلحاق الأذى بهذا الفصيل المصري القبطي، وكانت التعبيرات واضحة لا لبس فيها، وفي أعقاب فض الاعتصامين اعتبر الأخوان أن هذه هي اللحظة المنتظرة لشق روح مصر داخلها، فانطلقوا يحرقون الكنائس ويدمرون منازل الأقباط، وينهبون محالهم وأرزاقهم، ويخطفون أفرادهم ولا يزالون، عطفاً على فرض الإتاوات على أعيانهم وأراخنتهم، وشهوة قلبهم أحد أمرين، إما دفع الأقباط إلى الصراع المسلح، لتشتعل مصر عبر حرب أهلية، أو وضعهم على طريق الاستقواء بالخارج وطلب التدخل الأجنبي. كيف جاءت ردود مسيحيي مصر؟ قال كبير القبط تاوضروس الثاني: «إن أحرقوا كنائسنا سنصلي مع إخواننا المسلمين في المساجد، وإن أحرقوا المساجد سنصلي معاً في شوارع مصر المحروسة».

ولاحقاً حمل البيان الرسمي الصادر عن الكنيسة القبطية رفضاً واضحاً صريحاً لفكرة أي تدخل خارجي في شؤون مصر بدعوى حماية الأقباط، ما نزل برداً وسلاماً على قلوب المصريين، إلا الإخوان ومن لف لفهم.

البحث جارٍ على طريق لإشعال مصر، وهنا ظهر على السطح لقاءان للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الأول في اسطنبول بتركيا، وكان بمثابة الغطاء والتمويه للقاء الثاني الأخطر في لاهور باكستان، حيث دارت المناقشات حول الأجندة العملياتية التي ينبغي للإخوان أن يسلكوها في مصر لإسقاط الحكومة الانتقالية، وتحويل البلاد من مسار التطلع إلى الدولة المدنية الديمقراطية الناجعة، إلى العنف والدم والنار. علامة الاستفهام الأولى لماذا لاهور، وما دلالة اختيارها بوجه خاص؟ باختصار مفيد، لأنها المنطقة التي تحتوي على ما تبقى من عناصر للقاعدة، والتي تقيم على المناطق الحدودية مع أفغانستان وهذا يقودنا إلى تصور العنف القادم في مصر.

هل كانت عملية كنيسة الوراق نموذجاً يدلل على عودة نسق العنف الجهادي الذي عرفته مصر من قبل في منتصف السبعينات وأوائل التسعينات؟

بحسب ما تسرب من معلومات فإن الأجندة الدموية للجماعة شددت على تعميق فكرة الفتنة الطائفية، على أمل أن يتلقفها المجتمع الدولي المتربص بمصر ويتخذ منها تكية للتدخل في شؤون مصر، غير أن أقباط مصر ومن جديد أفشلوا هذه الخطوة الآثمة.

مخطط إخوان لاهور لا يتوقف عند حدود الفتنة، بل له وجوه قبيحة شتى، منها على سبيل المثال محاولة اختراق المجتمع المصري بوجوه إخوانية في العمق ومن الخلايا النائمة والمهاجرة إلى بعض الدول، وتقديمها على أنها نماذج إسلامية معتدلة، وكذلك استمرار التظاهرات والاحتجاجات في مختلف أرجاء البلاد، وتعمد إرباك حركة المرور في المدن الكبرى، والهدف هو تقليل قدرة حكومة الببلاوي، لتبدو الدولة المصرية في شكل الفاشلة، وللترويج من ثم لمصر المتدهورة، وتالياً تفعيل موجات العنف المسلح الذي يبدأ بالكنائس ليعود ثانية ضارباً أقسام الشرطة، ثم منشآت الدولة وأماكن السياحة وانتهاء بوحدات القوات المسلحة لتعيش مصر في حلقة مفرغة من الألم والخوف القاتلان.

يسعى الإخوان إلى أن يجد هذا السيناريو طريقه إلى الواقع قبل الرابع من نوفمبر القادم موعد الجلسة الأولى لمحاكمة محمد مرسي، لكن تغيب عنهم إرادة مصرية شعبية رافضة لمخططاتهم، وإدارة وطنية قادرة على المواجهة بعزم وحزم مهما كلف الأمر في الحال والاستقبال.