بخطى متسارعة تتلاحم موسكو والقاهرة من جديد، لتعيد كتابة سطور من التاريخ، كان فيها للروس أياد بيضاء على المصريين، ومن ينكر ذلك فهو جاهل أو غافل.

الأسبوع الماضي كانت عاصمة المعز تستقبل مدير المخابرات الروسية الحربية فيكسلاف كوندراسكو على رأس وفد أمني وعسكري في زيارة هي الأرفع ومؤكد الأنفع منذ ثورة 30 يونيو. ما الهدف من الزيارة ؟

في هذا الإطار يكثر الحديث عن رسائل حملها كوندراسكو إلى الفريق أول عبد الفتاح السيسي تتعلق بالاستعداد الروسي لتسليح مصر بأحدث الأسلحة وتعويضها عن وقف توريد قطع غيار السلاح الأميركي، وهناك من يذهب إلى أن الزيارة عينها تأتي في سياق زيادة التعاون الاستراتيجي بين البلدين وبخاصة في ظل صحوة روسيا بوتين من جانب، وفكاك مصر من دائرة الأسر الأميركي التي أحكمت رباطاتها من حولها أزيد من ثلاثة عقود. على أن واقع الأمر ربما يشير إلى أن هناك ما هو أعمق مما يطفو على السطح، ويجمع بين موسكو والقاهرة، ويتعلق بمواجهة جماعات الإرهاب الفكري والديني أو التي تتمسح بمعنى أدق في الأثواب الدينية وتتعلق بأهدابها زوراً وبهتاناً.

يعلم القاصي والداني أن روسيا ليس لديها مشكلة مع الإسلام أو المسلمين، الذين يشكلون نحو 20% من تعداد سكانها تقريبا ومؤخرا، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الإسلام كمكون مشارك في حياة روسيا في حاضرات أيامها، غير أن مشكلة روسيا الحقيقية هي مع الجماعات الأصولية التي يريد لها البعض أن تكون أدوات تفكيك في الجسد الروسي، وهي كثيرة من حول حدود روسيا، وعلى أطرافها، وفي داخل بعض أجزائها.

ولعل أفضل من لفت الانتباه إلى هذه الإشكالية مؤخرا كان البروفيسور سيرجي ماركيدونوف المحاضر الزائر في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولي برنامج روسيا وآسيا وأوروبا، واشنطن دي سي.

يذهب ماركيدونوف إلى أن التحدي الإسلامي أمر بالغ الأهمية بشكل خاص بالنسبة لموسكو، فالخطاب السائد حاليا في روسيا ينص على دمج الثقافتين الغربية والشرقية مع الحفاظ على ميزات كل منها.

وهكذا فإن الكرملين يحدد التهديد الأبرز لرؤية روسيا كحضارة عند تقاطع بين العالمين المسيحي والإسلامي، فالإسلام هو الديانة الثانية الأكثر امتداداً في روسيا، ما يجعلها الأقلية الدينية الأوسع في البلاد وديانة الغالبية في بعض مناطق شمال القوقاز، ومنطقة الفولغا والأورال وبالتالي فإن أهم التحديات التي يتعين مواجهتها هي التطرف أو التشدد من قبل الإسلامويين. هل بدأ الأمر في روسيا يأخذ شكلاً موازياً للتهديدات التي عرفتها مصر ولا تزال من جراء هذه الجماعات؟

يعن لنا هنا أن نذكر بأن عاماً من حكم الإخوان مرسي، كان وبالًا على الأمن القومي المصري دون مغالاة في القول، فقد عاد المتطرفون والإرهابيون من كل بقاع الأرض إلى مصر، وفتحت السجون ليخرج منها القتلة وامتلأت سيناء بالعناصر التي تسعى لتحويلها إلى إمارة إسلامية.

والثابت أن الحرب الأهلية السورية قد كشفت عن مشاركة عناصر من شمال القوقاز.ومن جمهورية الشيشان. هل كانت هذه نقطة التقاء مصرية- روسية جوهرية ؟

على هامش الزيارة الأخيرة للوفد المصري الشعبي لموسكو كان لقاء الرجل الذي يعرف الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة، ميخائيل بوجدانوف الممثل الشخصي للرئيس بوتين في الشرق الأوسط فيما يتعلق بالمنطقة العربية. بمجرد أن فتح بوجدانوف فاه قال بالحرف "إن أعظم ما قام به الشعب المصري هو ثورته على الإخوان لأنها في حقيقتها ثورة على المشروع الأميركي الاستعماري". وأضاف: "إن ثورة المصريين لم تنقذ مصر فقط ولكن أنقذت العالم كله". ما الذي عناه الخبير الروسي الأشهر بهذه الكلمات؟

هو يتحدث عن أمرين مرتبطين ببعضهما:

الأول هو الخدعة الكبرى التي أطلق عليها الربيع، والثاني هو الاستراتيجية الأميركية للعقود القادمة والمسماة "الاستدارة" نحو آسيا.

أما العلاقة فهي استغلال الشتاء الأصولي الإسلامي في الشرق الأوسط لزخم الحركات المتناغمة معه أصوليا في روسيا والصين وتطويعها كخنجر في الخاصرة من الداخل، في حين تتفرغ المؤسسة العسكرية الأميركية لحصار روسيا والصين من الخارج.

المشهد إذاً أكبر وأشمل من مجرد تنقل المصريين بين ولاءات أو تحالفات آنية سريعة، فمصر لا تسعى لأن يحتل الكرملين محل البيت الأبيض في سياساتها الخارجية الأخيرة، لكن الأمر التقاء مصالح استراتيجية تفرض ذاتها في وجه محاولات الهيمنة الأميركية التي لا تألو جهداً في السيطرة على مقدرات العالم، رغم أن كل الشواهد تقول بأن الشرق الأوسط لم يعد أميركياً بامتياز كما العهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى ثورة المصريين الأخيرة.