عندما التقينا "أوليفييه دومولان" قبل سنوات طوال، وجدته يطرح سؤالا جوهرياً علينا مفاده: بماذا تخدمكم المعرفة اليوم في بناء مستقبلكم الصعب الذي يريده أصحاب النظام الجديد؟
وكنت أتابع وأكتب مقالاتي منذ عشرين سنة، عما سيفعله العرب في مواجهة التحديات، مسائلا إياهم البحث عن أجوبة حقيقية يطرحها بعض المخلصين في العالم، وهم يردون على أفكار خطيرة ينشرها برنارد لويس وفوكو ياما وهانتنغتون وديفيد روبكوبث وروبرت كوبلان وكينيشي أوماي وغيرهم.. وبالأخص عمّا يخص واقعنا وتفكيرنا نحن العرب.
هكذا وجدت منذ قرابة عشرين سنة مضت، أن هناك من يريد أن يزيد تعقيدات الحياة العربية التي تراجعت كل مرافقها الحيوية، وخصوصا في التعليم والوعي والإنتاج والإبداع!
لقد بدا واضحا أن لعبة الأمم قادت إلى خراب المنطقة، وأن الغرب أخذ يعمل بشكل محموم لكسب مصالحه على حساب زرع حكومات هشة تحمل شعارات فارغة، وهي تسارع في تغطية المساهمات الحيوية التي لها علاقة عضوية بمصالحه، في ميدان تغييب الوعي والعقل وصنع أغلب القرارات المصيرية في أوطاننا التي ازدادت مشاكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع تكاثر السكان..
وتكلل ذلك بأقصى كوارثه في حربي الخليج الأولى والثانية إبان الثمانينيات، وما جرى من تهتكات في التسعينيات، بما فيها من احتلالات وحصارات ومجازر من أكثر من بلد.. وما حدث من فظائع بعد 11 سبتمبر 2001، وصولا إلى المشهد ما قبل الأخير باحتلال العراق عام 2003، وانتهاء بالمشهد الراهن وانفجار الثورات العربية في نهاية 2010، والسيناريوهات الكارثية التي نعيشها اليوم في العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس وفلسطين واليمن والسودان وغيرها.
لقد ولدت الطفيليات في عالم جهول يغيّب مصالحه بغباء، فسجنت الآراء الحرة، وقهرت الأصوات الوطنية، واغتربت النخب المبدعة، واستبدت الدكتاتوريات وتفاقمت أدوات الرعب.. وماتت الطبقة الوسطى، التي كان المجتمع يبني نفسه من خلال موظفيها ومثقفيها وساستها وتجارها ومعلميها ورجالها ونسائها..
وانحلت الفرص السانحة التي كانت تعمل على صون المضامين الفكرية والسياسية، بعيدا عن مشاكل الطوائف والمذاهب والأعراق، بعد أن عاثت الشوفينيات المتعصبة فيها فسادا.. ولم يقف المشهد المليء بالباروناميات المضحكة عند هذا الحد، بل تفاقمت المشكلات الداخلية والحدودية والإقليمية، لتشتعل المنطقة بالصراعات والحروب الباردة والأهلية والحدودية والإقليمية، التي أرجعت منطقتنا عشرات السنين إلى الوراء، وأهدرت ثروات طائلة دون أي مبرر..
وغدت "الأمة" التي يتشدقون بمكانتها، أمة مأزومة. لقد هربت الشعوب من واقع مأزوم إلى غرائب اليوتوبيا والانقسامية والطائفية والتمرد، ناهيكم عن الإرهاب وحمل أجندة غير مسالمة ولا متصالحة مع أبسط القيم.. ومن يراقب سيرورة العلاقة مع سياسات الولايات المتحدة، سيجد أنها كانت تسكت على كل ما يحصل من جرائم وخطايا، وهي تطمح مرة في الاحتواء، ومرة في زرع الفوضى "الخلاقة"، ومرة بتسويق الديمقراطية المزيفة..
وبدأوا التفكيك من أجل إعادة التركيب وبقاء المنطقة ملتهبة، إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 بخفاياها المجهولة، قد هزت العالم بقوة شديدة.. وكان كل من أفغانستان 2002 والعراق 2003 أول ضحاياها، ثم تسلسلت الصفحات في السنوات اللاحقة حتى اليوم! اسمحوا لي هنا بأن أقول لكل المهتمين الأوفياء، أن يطلعوا فقط على ما نشر في السنوات العشر الأخيرة من أدبيات عن منطقتنا، من قبل أكاديميين مختصين وعلماء ومؤرخين ومراقبين ومحللين، بصدد تفكيكها وتحللها وإعادة تركيبها ضمن المجال الذي أسميته في دراسة نشرتها عام 1992 "مربع الأزمات"..
وماذا سيحل به في القرن الجديد؟ المشكلة أكبر من أن نتخيلها في واقع قلما استطاع خبراؤنا تحليله وتقديم أجوبة حقيقية ومعالجات أساسية له، مع سيطرة قادة المتغيرات العرب الجدد في إدارة أنظمة فاشلة، وكيفية معالجاتهم المهترئة للأزمات التي تفجرها حالات الانقسام والتشظي التي خلقتها عوامل خارجية وإقليمية، مع حاجة مجتمعاتنا المنكودة من الجوع والرعب والقسوة، للمعالجة والتغيير والإصلاح نحو الأفضل.
إن أمامنا 30 سنة أخرى من التحديات القادمة، ستكشف كل همجيات التاريخ الراهن عن خطورتها وجسامة تداعياتها.. فمتى ستولد قوة نوعية عربية تأخذنا في سيرورة حقيقية نحو المستقبل المأمول؟