الحَلقة الأوكرانية في مُعادلة الظَّفر الروسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تواصل موسكو تسجيل انتصارات سياسية ناجزة، على حساب واشنطن التي أخطأت في الحساب مراراً وتكراراً، وها هي تدفع الثمن الغالي مرة تلو أخرى.. فبالأمس القريب، تمكَّنت موسكو من تدوير أوراق الأزمة السورية لحسابها الخاص، ووضعت الولايات المتحدة أمام مأزق لا خروج لها منه، خاصة بعد إحباط العملية العسكرية الافتراضية التي تلت استخدام السلاح الكيمياوي، وإرغام دمشق على القبول المفخخ بمتواليات عسيرة، وخاصة كيفية التخلص من الأسلحة الكيماوية.. ومن ذا سيقبل بدفن الدمار الشامل والسم الزعاف في ترابه الوطني؟

تالياً، جاءت المشكلة الأوكرانية لتتمكن موسكو من محاصرتها، عبر اتفاق لافت مع السلطات الأوكرانية بقيادة الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانكوفتش، والذي لا ينقصه التأييد الكامل من قبل الجيش والأجهزة الأمنية الأوكرانية، بحسب تقديرات المراقبين.

وقبل أن نقف على محتوى الاتفاق الروسي الأوكراني، لا بأس من الإشارة إلى بعض المقدمات الهامة في العلاقات الروسية الأوكرانية، وخاصة ما يتعلق منها بالجوانب الاثنية والثقافية التاريخية. فالمعروف أن القومية الروسية تشكل 17 % من مجموع سكان البلاد، كما تُشكِّل اللغة الروسية رافعة كبرى للانتلجنسيا المعرفية الثقافية العالمة هناك.

لكن الثنائية القومية الأوكرانية الروسية تجد لها امتدادات أفقية مُتنوعة، لعديد من الاثنيات واللغات الموازية، ما يجعل مُعادلة الداخل الأوكراني محكومة بفضاء إقليمي أوسع من مجرد الثنائية الأوكرانية الروسية، على أهميتها البالغة. ويضاف غاز التدفئة الشتوية كعامل هام في الحاجة الأوكرانية المستمرة للطاقة الروسية، ورغماً عن المشاريع الأميركية الفرنسية التوَّاقة لتحويل أوكرانيا إلى بلد مُصدر للطاقة.

السوق الروسية الكبيرة.. القادرة على امتصاص فوائض الإنتاج الزراعي والصناعي الأوكراني، تشكل بدورها ورقة ضغط قوية لصالح موسكو، كما أن أوكرانيا التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ما زالت تسحب معها قواعد المعايير السوفييتية، في الصناعة والزراعة والحماية الاجتماعية، وغيرها من أوجه الحياة وفلسفتها..

الأمر الذي يجعل تحوُّلها بالصدمة نحو الرأسمالية، على الطريقة الغورباتشوفية، أمراً محفوفاً بمخاطر جمَّة، وهو ذات الحال الذي عانت منه بقية منظومة بلدان الاتحاد السوفييتي السابق الخارجة من مركزية موسكو، فغالبية تلك البلدان عانت الأمرِّين بعد امتشاقها حسام الرأسمالية غير الراشدة، وأصبحت الوحشية الاقتصادية والاجتماعية سمة بارزة، جعلت المواطنين يحلمون بعهود الكفاية والحماية الاجتماعية الحياتية، حتى وإن افتقدوا الديمقراطية على النمط الغربي.

كانت أوكرانيا، وما زالت، في قلب مُعادلة "الانفصال ـ الاتصال" مع موسكو، لسببين.. كونها في حاجة مستمرة للدعم الروسي على كافة المستويات، ولكونها الحاضن الأكبر للأسطول العسكري البحري الروسي. وكان لهاتين الحقيقتين وما زال، ثقل استثنائي في علاقة روسيا مع أوكرانيا، والتي تميل بطبيعة الحال لصالح روسيا، التي لا تفتقر لكامل الأسباب للإبقاء على الروابط الحيوية مع بلدان الفلك السوفييتي السابق، وفي مقدمها أوكرانيا.

الجديد أن تحالف اليمين والقوميين تمكن من تحريك الشارع الأوكراني، مُناصرةً لاتفاق التجارة الحرة مع أوروبا، ووصولاً إلى شبه ثورة برتقالية جديدة. لكن حكماء البلد من الوسطيين ويسار الوسط، يعتقدون أن الروشتات المعيارية للاتحاد الأوروبي لن تنقذ أوكرانيا من إفلاس مُحقق، ولن تكون إلا عاملاً لتطويع المقدرات الاقتصادية لصالح الشركات العابرة للقارات، كما يحدث في رومانيا المجاورة، على سبيل المثال لا الحصر.

الذين يعرفون رومانيا المعاصرة عن كثب، يرون بأُم أعينهم كيف انهارت الزراعة الواسعة، وتبخَّرت أنظمة الري فريدة المثال، وأغلقت المصانع ذات المنشأ الوطني أبوابها، وكيف أصبح المواطن الروماني يئن تحت وطأة غلاء لا يتوقف عند حد.

تلك هي وعود روشتات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المتناغمة مع قواعد معايير للاتحاد الأوروبي، والتي على أوكرانيا مُتابعتها حتى تنال القبول في نادي الأغنياء الأوروبيين الغربيين.

لكن الأهم من هذا وذاك، يكمن في الحاجة الأوكرانية الماسة لتأمين الطاقة، التي لا تتوفر بسخاء حد الاحتياط، إلا في موسكو. وإذا أضفنا إلى كل ذلك الديون المليارية المطلوبة من أوكرانيا، فإننا سندرك معنى القبول العاقل بعدم إدارة الظهر لروسيا، وقد صرح بذلك رئيس الوزراء الأوكراني، وهو يعلنها على رؤوس الأشهاد قائلاً: إن عدم توقيع الاتفاقية الجديدة مع موسكو يعني إفلاس البلاد.. وبالطبع يعني أيضاً حرمان أوكرانيا من طاقة الحياة في فصل الشتاء.

كانت موسكو على مدى أيام التمردات اليمينية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، تتصرف برويَّة مقرونة بمخاطبة مصالح عموم مواطني تلك البلدان، فلم يُعرف عنها أنها قطعت الإمدادات الغازية، ولم يُعرف عنها أنها بالغت في أسعار الطاقة لتعجيز القائمين على أمر الحكم والحكومات في تلك البلدان..

بل ظلَّت تراهن على العلاقات الخاصة ذات الطابع التاريخي الجيوسياسي مع أوكرانيا وغيرها من بلدان الفلك السوفييتي السابق، وها هي الآن تقدم الطاقة بنظام أفضليات فريد المثال، فيما تصرف النظر عن تراكمات الديون، بل وتقدم مساعدات واضحة المعالم، وهو ما استوعبه بعض فرقاء الشارع الأوكراني من جهة، كما رجَّح كفة الوسطيين في معادلتي العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وروسيا من جهة أُخرى.

إلى ذلك، شَرَعت موسكو في نصب سلسلة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، على خط الحزام المتاخم لها في بلدان أوروبا الشرقية، لتشعر حلف الناتو بأنها جاهزة تماماً للرد الاستراتيجي، طالما ظلت صواريخ الحلف منصوبة في بعض بلدان أوروبا الشرقية. جملة هذه الحقائق تعيدنا مرة أخرى إلى الأسباب الجوهرية، التي حَدَتْ بأوكرانيا للتقارب مع روسيا بدلاً من أوروبا، كما تشير إلى المستويات المتقدمة للنجاحات السياسية الروسية، التي ما كان لها أن تصل إلى هذه المثابة لولا الأخطاء الأميركية المتتالية على عهود بوش الأب وبوش الابن..

تلك الأخطاء التي كبَّلت إدارتي بيل كلينتون وأوباما، وما زالت تفعل فعلها في السياسة الأميركية (الأوراسية)، على امتداد أوكرانيا وبيلاروسيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وبولندا على خط الشرق، وجورجيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأذربيجان على خط الجنوب.. وصولاً إلى كامل الشرق الأوسط الذي ينسلُّ من قبضة الولايات المتحدة بمتوالية متسارعة، دونها ما نشهده في مصر، على سبيل المثال لا الحصر.

الحلقة الأوكرانية في معادلة المُتغيِّر السياسي الروسي تكتمل مع بقية الحلقات، وتؤكد أن روسيا المتحالفة مع الصين تتجهان صوب المزيد من استعادة مجد الثنائية القطبية السابقة.. ولكن بتعددية مفتوحة على احتمالات كثيرة.

Email