حقاً إنه لأمر عجيب، أن يسكن المرء في دولة أكثر من خمسين سنة، من دون أن يحق له أن يحمل جنسيتها! وليت المنع كان اختيارياً، يندرج تحت أعمال السيادة، لهان الأمر، أو ربما التمسنا العذر! ولكن أن يكون المنع بقوة القانون لرجل خدم الكويت في أحلك فترات تاريخها، فهذا أمر يدخل في باب الأعاجيب. إنه حال مدير البنك الوطني إبراهيم دبدوب، الذي طلب التقاعد، بعد أن خدم هذا البنك مدة ثلاث وخمسين سنة متواصلة.
كيف يكون المنع قانونياً؟ وكيف تكون يد الحكومة مغلولة في تكريم هذا الرجل، وأمثاله ممن خدموا الكويت في السراء والضراء؟! إنها لعبة السياسة، وفن دغدغة عواطف العامة، واللعب عليها، التي برع في إجادتها بعض السياسيين، الذين تصدروا العمل النيابي في الكويت! وهو تفنن ورَّث الكويت حالة الجمود الاقتصادي والاجتماعي، التي تعيش فيها منذ مدة طويلة.
إبراهيم دبدوب مواطن فلسطيني مسيحي، وقانون الجنسية الكويتي يشترط للمتجنس أن يكون مسلماً، أو قد مضى على إسلامه خمس سنوات. هذا الشرط لم يكن موجوداً في قانون الجنسية الأصلي، الذي صدر في أواخر العام 1959، الذي وضعه العلامة عبد الرزاق السنهوري. وحينما وضع القانون موضع التطبيق، واجه كثيراً من الصعوبات، لأنه لم يكن ملائماً في بعض مواده أو فقراته للبيئة الكويتية المتغيرة سريعاً آنئذ، وفي ظل صعوبات التطبيق والشكاوى المتكررة، أقفل مجلس الأمة الكويتي في جلسة عاصفة في صيف العام 1966 باب التجنيس.
كانت لقفل باب التجنيس آثار سلبية نتركها لمقالة في المستقبل، لكننا نقول اختصاراً، إن الحكومة استشعرت ضرورة فتح باب التجنيس من جديد، لما سببه قرار المجلس من سلبيات، وكان ذلك في عام 1981، وبالفعل تقدم الآلاف لتسجيل أسمائهم. ولا بد من الإشارة إلى أن طلب التجنيس غير ملزم للدولة، إذ إن الجنسية بالتجنيس هي منحة وليست حقاً، وهذا ما كان أعضاء المجلس يعرفونه حق المعرفة، حين تقدم ثلاثة منهم، لإضافة فقرة إلى قانون الجنسية تشترط أن يكون المتقدم لطلب الجنسية الكويتية مسلماً، وكان لهم ما أرادوا (يناير 1982)، رغم معارضة الحكومة لذلك، وبيانها أن مثل هذا الشرط محرج للدولة أمام المجتمع الدولي.
هكذا أصبح تكريم الدولة لإبراهيم دبدوب وأمثاله بمنحه الجنسية، يمنعه القانون، رغم تفاني الرجل في خدمة وطنه الثاني الكويت. لقد أحب دبدوب الفلسطيني الكويت، كحبه لفلسطين، وأخلص في عمله في البنك الوطني، وارتقى بجده واجتهاده من موظف بسيط (سكرتير لمجلس الإدارة)، في عام 1961، إلى الرئيس التنفيذي لأكبر بنك في الكويت في العام 1983.
وليس من السهل أن يضع المرء بصماته على بنك عريق، مثل البنك الوطني، الذي بدأ أعماله في العام،1952 بمبادرة من التجار، وبدعم من الشيخ عبد الله السالم، طيب الله ثراه، لكن الرجل أثبت كفاءته، فبشهادة محمد عبد الرحمن البحر، رئيس مجلس إدارة البنك، ارتفعت أرباح البنك في عهد دبدوب من 20 مليون دينار عند توليه، إلى 305 ملايين دينار العام الماضي، كما شهدت هذه الفترة توزيع ملياري دينار كأرباح نقدية على المساهمين، مع 320 مليون دينار أسهم منحة، ناهيك عن أن البنك أصبح له أكثر من خمسين فرعاً خارجياً.
تجنب البنك الوطني بقيادته الحكيمة وبقيادة مجلس إدارته - الذين هم من تجار الكويت العريقين - أزمتين من أصعب الأزمات. الأولى، حينما انهار سوق المناخ في العام 1982، وقد حذر منه البنك الوطني سلفاً، وبشكل متكرر، إلا أن صوته - صوت العقل - ذهب أدراج الرياح في سوق، كانت تتضاعف فيه أسعار الأسهم في اليوم الواحد! كان البنك الوطني بفضل دبدوب وغيره البنك الوحيد، الذي لم تمسسه الأزمة بسوء.
وكان الاختبار الأصعب أيام غزو العراق للكويت، إذ استطاع هذا الرجل أن يعيد تشغيل البنك في المهجر، في لندن تحديداً، وكانت هذه سابقة، إن لم تكن نادرة النوادر.
نتمنى لهذا الرجل الصحة والعافية وطول العمر، ونقول له، إنك حقاً قدوة لشبابنا العربي، ونهنئه بمناسبة عيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية.