من أوائل الأشخاص الذين خطروا على ذهني عندما سمعت خبر قيام جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون.كوم، بشراء صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً، رجل آخر من بلاده، وهو الفيلسوف اليوناني هرقليطس، الذي قال منذ حوالي 2500 سنة: "لم يحدث أبداً أن وضع إنسان قدمه في النهر نفسه مرتين"، أو كما يعبر الصحافي جيمس فيلوز عن ذلك قائلا إن عملية البيع "كانت واحدة من تلك الأحداث التي تلخص وقائع حقبة تاريخية".
ولكن إلى جانب تلخيصها لحقبة سابقة، فإن تلك العملية لديها الإمكانية لتوسيع الحقبة التاريخية التي نعيشها. وهذا الجمع بين الأفضل ضمن وسائل الإعلام التقليدية وبين الإمكانات غير المحدودة للوسائط الرقمية، يشكل فرصة مذهلة.
أولا، إنها فرصة لنقل الحديث عن مستقبل الصحف إلى حد أبعد في اتجاه مستقبل الصحافة ككل، أيا كان الشكل الذي يجري تقديمها به. ففي نهاية المطاف، وعلى الرغم من الأخبار المخيفة عن وضع صناعة الصحف، إلا أننا في وضع يعتبر العصر الذهبي للصحافة بالنسبة لمستهلكي الأخبار.
والمستقبل سيكون بالتأكيد عبارة عن وضع هجين، يجمع بين أفضل الممارسات في الصحافة التقليدية؛ النزاهة والدقة ورواية القصص والتحقيقات المعمقة، وبين أفضل الأدوات المتاحة المتوفرة في العالم الرقمي؛ السرعة والشفافية، وفوق أي شيء آخر إشراك الناس.
وكما أوضح بيزوس في بيانه الأول إلى موظفي صحيفة "واشنطن بوست"، فإن روح الاختبار والتجريب العلمي التي كان يمارسها في موقع أمازون، ستستمر داخل الصحيفة، وكتب: "لا توجد خريطة، والقيام برسم الطريق أمامنا لن يكون سهلا"، مضيفا: "سنحتاج إلى الإبداع والابتكار، مما يعني أننا بحاجة إلى إجراء التجارب".
ولحسن الحظ بالطبع، لدى بيزوس المال لتمويل تلك التجارب. لكن هناك فرق بين تغطية خسائر نموذج عملي في مرحلة الانحدار، وبين تغطية خسائر تجارب للخروج بنموذج عمل جديد.
وميزة أساسية يتمتع بها بيزوس، تكمن في فهمه لقوة إشراك الناس. ففي أمازون، أوجد التجربة الأكثر استجابة من الناس في مجال تجارة التجزئة على الإنترنت (أو خارج الإنترنت). وهذا بالأخص يعد أمرا مهما فيما تنتقل وسائل الإعلام من نموذج التقديم إلى نموذج يركز على إشراك الناس، وأخبار اليوم محادثة مستمرة في اتجاهين. وكما هو الأمر مع أي محادثة، فإن الاستماع لا يقل أهمية عن الحديث، و"أمازون" تعد معلما في قوة الاستماع.
ولأنه لا أحد يعتقد أن عملية إحياء صحيفة "واشنطن بوست" ستكون عملية سهلة، فإن ميزة أخرى من شأنها أن تكون مفيدة هنا، وهي الصبر. ويعد بيزوس أسطوريا لتفضيله النمو المستدام طويل الأمد، على المكافآت السريعة لأرباح وول ستريت قصيرة الأجل والمثيرة للرضى.
وفيما لا يعتبر بيزوس سياسيا بصريح العبارة، إلا أنه كما يقول ديفيد ويغل "اكتسب سمعة بكونه مؤمنا بتعظيم حقوق حرية الأفراد وتخفيف دور الدولة، مع أسلوب في العطاء يصل إلى المستهدفين". والأمل أن تكون إحدى القضايا التي ستقوم صحيفة "واشنطن بوست"، في ظل بيزوس، باشراك الجمهور فيها، هي الحرب على المخدرات التي تعتبر إحدى القضايا المهمة لمجلة "ريزون".
وكما كتب محرر المجلة مات ولش مؤخرا: "يصرح المدعي العالم للولايات المتحدة، بأن حرب أميركا على المخدرات التي أدت إلى أحكام سجن مطولة، تمثل فشلا أخلاقيا، معلنا قواعد فيدرالية جديدة للتهرب بشكل متعمد من قوانين الحد الأدنى الإلزامي لجرائم المخدرات". وبالطبع، لا يشكل ذلك إلا إجراء أوليا نحو إنهاء الحرب الشعواء المدمرة على المخدرات، وهي الحرب التي تفقد شعبيتها بشكل متزايد على أطراف الأطياف السياسية.
وقد تكون صحيفة "واشنطن بوست" في موقع يمكنها من حشد الجمهور لصالح قضايا تتجاوز اليمين واليسار، وذلك من خلال نقل أدوات الإشراك المبتكرة التي أوجدها بيزوس في شركة أمازون، إلى الساحة الإخبارية.
بالطبع، كل هذا من باب التكهنات، لكنه يشكل أيضا فرصة حقيقية، ليس لصحيفة "واشنطن بوست" فحسب، وإنما أيضا لنا جميعا للتفكير في كيفية الاستفادة القصوى من هذا المستقبل الهجين الجديد. لقد قال بيزوس في خطاب ألقاه قبل 13 عاما تقريبا: "ما أخذته التكنولوجيا، يمكن للتكنولوجيا أن تعيده". وكما أوضح هرقليطس، فإن ما أخذته التكنولوجيا لن يعود بالطريقة نفسها. لكن هذا لا يشكل أمرا سيئا، فسيكون الوضع مختلفا، ويمكن أيضا أن يكون للأفضل.
والسجالات بشأن نماذج الأعمال لوسائل الإعلام الإخبارية سوف تتواصل لفترة طويلة، ولن تكون هناك إجابة واحدة فسحب، لكن من الجيد جدا وجود جيف بيزوس مشاركا في هذه الأحاديث. ولصحيفة "واشنطن بوست" تاريخ عريق، وليس لدي أدنى شك في أنه سيكون لها مستقبل عظيم أيضا.