متوازيات التحدي في العالم العربي

تنساب المنطقة العربية نحو عام جديد وما زالت التحديات تتفاقم بعنفوان غير مسبوق، مُكثِّفةً كامل المشهد الدرامي، مع تركيز غير منكور لبؤرة الضوء الأساسية على بلدان الربيع العربي التي اهتزت وترجرجت وفاضت بالغريب والأغرب، وبتفاوت ملحوظ في درجة التراجيديا المشهدية ومصائرها المرصودة، وقد أثبتت تجربة التحول العسير أن القاسم المشترك الأعلى بين الدول العربية محكوم بمنطق للحاكميات لا صلة له بالتاريخ ولا العصر، فجمهوريات ما بعد الانقلابات العسكرية العربية المشهودة خلال عقود الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين المنصرم، غادرت ميزان الحاكميات التاريخية، ومعنى الجمهورية العصرية أيضاً، فوقعت في أحابيل العسكرتاريا المنخلعة من ذاكرة الحكم والحاكمية، والمُتموْضعة في مجال القوة المجردة، وكثيراً من الاستيهامات الأيديولوجية التي تحوَّلت تباعاً إلى مجرد دوغما سياسية.

أظهرت أحداث السنتين الماضيتين أن التفارقات بين "جمهوريات الموز" العربية تكمن في الدرجة لا النوع، فالنظام المصري على عهد الرئيس السابق حسني مبارك اختلف عن النظام السوري على عهد بشار، والنظام في اليمن اختلف عن النظام في ليبيا، وهكذا يمكننا رصد تونس في أُفق آخر، ومن هنا نستطيع استيعاب الاختلافات القائمة في طبيعة التحديات ونوعها ودرجة كثافتها، فالحالة الليبية جاءت عطفاً على نظام فرداني اتوقراطي شديد الشمول والمركزية الفردية التي تاقت إلى أن تكون بديلاً شاملاً للمؤسسة والدولة، مع إمعان في مُصادر الجغرافيا والتاريخ، والنظام السوري ظلَّ موصولاً بمركزية بوليسية مُقطَّرة تتخفَّى وراء غُلالات الخطاب الديماغوجي الذي أثبت تهافته التام على مستويات متعددة، والنظام اليمني على عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح اعتمد شكلاً من البراغماتية ذات الطابع اليماني الميكيافيللي والمُتدثِّر ظاهراً وأساساً بثقافة التنازلات المتبادلة التي وسمت الزمن السياسي لليمن الشمالي منذ انقلاب بيت الوزير على بيت حميد الدين في أربعينيات القرن المنصرم.. يومها تنازل الإمام أحمد لبيت الوزير، مُقراً لهم بالمرجعية الأولَى للإمامة التاريخية الزيدية..

لكنه بعد ذلك استغل الحصانة الممنوحة له، ليقوم بتجييش أنصاره ضد بيت الوزير، ويعود إلى صنعاء بعد أن انقلب على عهده وميثاقه، وتواصلت ذات الثقافة السياسية الميكيافيللية أثناء حروب الملكيين والجمهوريين التي أسفرت عن اتفاقية الطائف، وظل محتواها ملغوماً بتعايش قلق بين أنصار الجمهورية وأنصار الملكية، وكانت النتيجة الحتمية لذلك التوافق أن ترتدي الجمهورية السبتمبرية ثوباً ملكياً بامتياز، وتلك واحدة من مفارقات الزمن السياسي العربي.. المُقيم في ماضيه وإن تخلَّى عنه ظاهراً.

تواصلت ثقافة التعايش الملغوم مع حروب دولتي الشمال والجنوب السابقتين على الوحدة اليمنية، وحتى لحظة إشهار الوحدة المقرونة بتعددية سياسية حالمة عند البعض، ومُخاتلة في العمق لدى المُنخرطين في الثقافة السياسية النمطية، ولقد تاق النظام دوماً لتذويب مفاعيل التعددية السياسية، فلم يقدر على ذلك، بل إن من المفارقات المثيرة في تاريخ الحركة السياسية اليمنية المعاصرة أن النظام صُدم في ذروة أيام الانتفاضة الشبابية الشعبية حين اكتشف على حين غفلة من الدهر أن قطاعاً واسعاً من أعضاء حزبه وحلفائه كانوا بمثابة كتل سياسية متراصة داخل حزبه بالذات، وهو الأمر الذي قد نجد له موازيات غير معلنة حتى اللحظة.

وخاصة في إطار حزب الإصلاح الذي يتمظهر بوصفه المُعبر عن تيار الإسلام السياسي، لكنه قد يتجاوز ذلك ليعبر عن أبعاد أخرى غير مشابهة لحالة الإسلام السياسي الاستيهامي الأيديولوجي في بعض البلدان العربية. ومن عجائب الدهر أيضاً أن النظام التونسي على عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي اتَّسم بثقافة بوليسية مُقطَّرة، وهذه الثقافة بالذات انتشرت بمتوالية صاعدة، فاختلط فيها المعقول باللا معقول.

نعم.. سقطت تلك الأنظمة بذات الأدوات التي ارتهنت لها، فقد سقط نظام صالح بأدوات التعددية التي تصورها ومستشاروه قابلة للمحاصرة، وسقط نظام العقيد القذافي بذات المنهج العنفي السيكولوجي الذي رأيناه في صور السحل والطعن والقتل، أثناء تعذيبه وقتله، ومن اللافت أن ذات الأسلوب كان يتبعه النظام في كيفية التخلص من معارضيه الذين كانوا يُسلَّمون للسحل والتعذيب والطعن والإهانة من قبل معسكرات الجنود المُطالبين بتنفيذ ذلك النوع من القصاص البدائي السيكوباتي.

الانهيارات المتتالية لسلسلة من أنظمة العرب الجمهورية الاتوقراطية ما كان لها أن تسفر عن بديل ناجز قياساً بمنطق التاريخ وقوانينه الموضوعية، فكان الحاصل ما رأيناه من فراغ سلطوي عطَّل دور المؤسسات، وفتح الباب لفوضى عارمة في الشارع، وقلَّل من هيبة الدولة ومؤسساتها.. لكن هذه التداعيات لم تكن مجرد سياق منطقي للانكشاف الكبير الذي تلا سقوط الأنظمة، بل كان أيضاً وضمناً تعبيراً عن تناطح ثيران الاستقطاب السياسي، والتمترسات الضيقة التي غادرت مفهوم الوطن لتلتحق بركب الفئة الصغيرة، وتبرر ما تذهب إليه من تجاوز للسياق العام للتطور.

حدث ذلك في كل بلدان الربيع العربي التي أثارت نقعاً سينقشع يوماً ما لا محالة، وخاصة إذا أدرك فرقاء الخيار العصري الحداثي أنهم بحاجة ماسة إلى تحالفات واسعة تجمع الليبراليين والقوميين واليساريين، مع استيعاب ضمني لمقتضيات استعادة الدولة المخطوفة من خلال استكمال هياكلها القانونية الدستورية وبنيتها المؤسسية الطافية، ومحاصرة الجماعات المتشددة ذات الأهداف المريبة، ومناجزة التعليم الفراغي الذي يستهدف العقول الشابة الفتية، لتتحول إلى صواريخ بشرية عابرة للمنطق والعقل.

لن تتم هذه المحاصرة والمناجزة من خلال الأدوات الأمنية المجردة على أهميتها، بل أساساً من خلال تدوير التنمية، والتخلي عن المركزيات الفجَّة، والنظر لمصالح الشعوب، والتداعي الحُر مع المُتغير الحاسم الذي يضعنا أمام إكراهات لا مفر من التعامل معها.

الانعطافة المصرية الواعدة ستمثل منصة الانطلاق التجريبي المفاهيمي لبقية البلدان العربية الواقعة في ذات السؤال، وما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مصر العربية سيمثل نموذجاً لبقية الكيانات العربية الطافية في فضاء الأزمة المتواترة، وذلك عطفاً على ما جرى خلال السنتين الماضيتين. العام الجديد مُترعٌ بالكثير من المفاجآت التي تتناوبها المسرات والأحزان.. لكنه التاريخ يمضي إلى مصائره غير مُعوِّلٍ على رغباتنا وآمالنا التي طالما تعرضت لخيبات متتالية.

الأكثر مشاركة