العجائب الأميركية في المنطقة العربية

تفرَّدت الولايات المتحدة دون الخلق أجمعين بتبنِّي سياسات أثارت النقع، وخربشت جدران الصورة الاعتيادية للعالم المعاصر، حتى إن الحرب الباردة على عهد القطبين السابقين، كانت رحمة ونعمة، قياساً بما يجري اليوم.

وقد بلغت سياسية الانفراد العُنفي الذروة أثناء حضورها المُعلن على عهد الرئيس الأسبق ريغان، الذي لم يكن يُخفي قناعاته الأيديولوجية الدينية القاضية بحرب دائمة لا تبقي ولا تذر. وقد كان ريغان يمثل رأس الحربة في قطاع الصقور من الجمهوريين المحافظين، الذين رفضوا جهاراً نهاراً نصائح وزير الخارجية المخضرم هنري كيسينغر، واعتمدوا بدلاً من ذلك فكرة الحرب الدائمة ضد المد الأحمر الشيوعي، ولم يتنازلوا قيد أنملة في سلسلة المفاوضات الماراثونية حول الأسلحة النووية، التي جمعت سدنة الكرملين في الاتحاد السوفييتي السابق، مع صقور البنتاغون.

وعندما قرر الرئيس الأميركي نيكسون التراجع قليلاً، وتخطِّي مرحلة سابقيه من المحافظين الجمهوريين، كان عليه أن يدفع الثمن باهظاً، لمجرد أنه شاء إنهاء حرب فيتنام والتصالح مع الصين الشعبية.

تلك أيام خلت، ولكنها أومأت إلى المقدمات التاريخية لنشوء وتطور تيار المحافظين الجدد، الذين بلغوا ذروة انتشائهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث اعتبروا المُتغير العاصف في بلدان أوروبا الشرقية بُعيد السقوط الحُر للاتحاد السوفييتي، فرصة سانحة لعصف شامل يطال الشرق الأوسط الكبير، حتى إن بعض مُتطيِّريهم رأوا بعين اليقين الأيديولوجي الديني، أن الإمبراطورية العالمية قدر إلهي اختاره الله للشعب الأميركي، ونموذجه الفريد هو الذي تحدث عنه المفكر الهيغلي فوكوياما، وهكذا شرعوا في وضع كامل المخططات الذهنية، الكفيلة بمباشرة تطبيقاتهم المتسارعة بعد "غزوة" سبتمبر المعروفة.

كان واضحاً منذ بدايات التنظير للفوضى الخلاقة، أن صقور البنتاغون من الجمهوريين الجدد لا ينقصهم الوقت ولا التدبير للذهاب بعيداً في مشروع الفوضى التي تقضي بشن الحروب خلطاً للأوراق، والعصف بالثوابت، ثم انتظار النتائج التي ستأتيهم على طبق من فضة.

هكذا اعتقدوا بعد حرب الخليج الأولى التي أفضت إلى تمترس عسكري استثنائي في المنطقة العربية، وبدت بعد حين كما لو أنها إيذان وتبرير أيديولوجي لتنامي تيار الإسلام السياسي الجهادي، متذرعاً بحجة وجود قواعد عسكرية أميركية في الأراضي المقدسة.

وعلى خط متصل، جاء الاحتلال الإسرائيلي المُبكِّر للضفة والقطاع، إيذاناً وتبريراً لنشوء الإسلام السياسي القابع حتى اللحظة في قطاع غزة، فيما جاء اجتياح الجنوب اللبناني كمبرر أدَّى لنشوء نظام "الدولة داخل الدولة"، من خلال حزب الله الذي يُعلن الجهاد ضد الصهاينة، فيما ينخرط في حرب طائفية واضحة المعالم داخل سوريا.

لقد جاءت تلك المبادآت العسكرية الأميركية الإسرائيلية كمقدمات لظهور بذور الفوضى في المنطقة، وليس غريباً، والأمر كذلك، أن تتقبَّل الولايات المتحدة من طرف خفي، استبدال الديمقراطية الأميركية الموعودة في العراق، بنظام الولاء والبراء الديني الطائفي المتحالف مع محافظي العتبات في طهران، وليس غريباً أيضاً أن تقبل إسرائيل بعين راضية، خلافاً فلسطيناً مُشرْعنا بقوة الأمر الواقع، ليكرس ثنائية الضفة والقطاع، وليس غريباً أيضاً أن تنافح الإدارات الأميركية المتعاقبة عن إسلاميي العدمية السياسية، ابتداءً من بعض المنابر "الفضائية"، وحتى أروقة الخارجية الأميركية.

خليط من الخداع والتبريرات البراغماتية والمواقف المتناقضة، حكم سلسلة الإدارات اليمينية الجمهورية، وفاض بحقائق سياسية داخلية تتمنَّع على أي محاولات للوسطيين الديمقراطيين للخروج منها وعنها.

وإذا أخذنا، على سبيل المثال لا الحصر، الصعوبات البالغة التي تواجهها إدارة أوباما الديمقراطية، والمتعلقة بإصلاح الخدمات التعليمية والطبية، وإنعاش نظام الحوافز للطبقات الوسطى والفقيرة، سنجد أن اليمين المحافظ يناوئ تلك السياسة، فيما نتذكر أنهم كانوا يدعمونها على عهود ريغان وبوش الأب، وهذا ما يسري على سلسلة القضايا الداخلية الأميركية، ما يجعل المُتغيِّر الدولي المحتمل في سياسات الولايات المتحدة مقبوضاً بقوة المنع الصاعق للمحافظين الجمهوريين الهرمجدونيين.

ذهب الجمهوريون إلى العراق وهم لا يستهدفون رأس النظام من حيث الجوهر، ولا يمتلكون أدنى حجة في وجود أسلحة دمار شامل، بل لأنهم يعتقدون أن إزاحة صدَّام عتبة عابرة في سبيل القفز على إيران وكوريا الشمالية، ضمن ذات السيناريو، وتالياً، تحقيق مثلث تركي إيراني عراقي موالٍ للولايات المتحدة، ثم استكمال المخطط الافتراضي بإنجاز الضربة القاضية في سوريا، توطئة لالتفاتة واسعة صوب الخليج والجزيرة العربية ومصر واليمن، لتغيير "الأصدقاء المُستبدين" دونما حاجة لشن حروب جديدة!

قد لا يُصدِّق القارئ مثل هذا السيناريو الافتراضي الهوليوودي، لكن مراجعة أساسية لأحداث سبتمبر ومقدماتها، تكشف أن التفكير الهوليوودي الاستسهالي جزء من المُكوِّن العقلي لليمين المحافظ. وقد تجلَّت هذه الحقيقة بالترافق مع أحداث الربيع العربي، فقد رسخت دوائر الصناعة الإعلامية الأميركية العالمية في الأذهان تلك الأحداث الموضوعية، بوصفها مجرد "نظرية مؤامرة".. بعد أن قامت بتشجيع مشاريع سياسية غامضة، لتسفر عن وجه التخلِّي البراغماتي عن أصدقاء الأمس الأوفياء، ولنشهد لاحقاً معنى "الفوضى البناءة" وسط خرائبنا المفتوحة على مزيد من الخرائب والعجائب.

لا أتنازل بهذا القول عن قناعاتي بأن النظام العربي كانت له مثالب حقيقية، وأن تلك المثالب شكَّلت سبباً جوهرياً لانتشار الدين السياسي العُصابي، وأن اندلاع الانتفاضة العربية الشعبية جاءت عفوية، بقدر انتمائها لمعنى الصُّدفة في التاريخ، مما لسنا بصدد استعادته هنا.. لكن كل تلك الحقائق تم توظيفها بكيفيات فوضوية ترى أنها خلاقة، وليست كذلك البتَّة.

ذلك أن مثلث الأيديولوجيا، والأخلاق النمطية وفق الطراز الأميركي، والقوة الكاسحة..

ما زال سيد الموقف في صنع القرار الأميركي.. ذلكم المثلث الذي قاعدة رُكنيهِ الأيديولوجيا "النيتشوية البراغماتية العُنفية الهرمجدونية" من جهة، والحديث عن الحرية والازدهار والديمقراطية من جهة أخرى.

ثم يتربَّع على قمته منطق القوة الكاسحة التي تأتي كحصيلة منطقية لرُكني القاعدة التي أشرت إليهما. أي أن الحديث عن الحرية والديمقراطية والازدهار محض هراء صرف، ومجرد مسوغ غير أخلاقي لتبرير نظرية الحل بالعنف.. ثم يأتي العنف الفعلي ليحدد جوهر هذا الفكر المُتطرف، باسم الحرية والديمقراطية ومستقبل الشعوب.

تلك قراءة أُولى للحالة الأميركية السياسية الراهنة، التي تستحق المزيد من الاستطرادات، حتى نعرف أين تقع أقدامنا، وما هي المسافة الفاصلة بين أميركا المِثال الطوباوي، وأميركا الاندفاع والجنون.