بعد أكثر من عشر سنوات على جلوس زعماء "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي في غرفة قيادة الجمهورية التركية، جرت نقاشات سياسية معمقة ومقارنة حول فلسفة السياسة الخارجية التركية، ومنظّرها وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، الذي دعاه البعض بـ"كيسنجر جديد للشرق الأوسط"، إثر إصداره كتابه "العمق الاستراتيجي"، وإطلاقه تعبير "The New Ottomanist".

اليوم، ماذا يجيب أولئك الذين يؤمنون بدور تركيا في المنطقة على امتداد الأيام الأخيرة؟ وكيف تحولت من طريقها التغريبي نحو الطريق العثماني إلى الشرق؟ كما فرض السؤال التالي: ما الذي قصدته في التفافها نحو "حدائقها الخلفية"؟ لقد تبلورت مؤخراً عدة أسئلة كالتي بدأت تطرح، ويستمع الأتراك إليها.

في الواقع، كان أحمد داوود أوغلو مستشاراً خاصاً لأردوغان بعد تسنمه السلطة، وهو يترجم هذه الأفكار ويبشر بها، وقد لعبت دوراً نشطاً للغاية في الشرق الأوسط. ولم يكن أوغلو هو المؤسس لهذا الطرح، وخصوصاً التقارب بين العرب والأتراك، إذ سبقه كل من عدنان مندريس في شراكته بـ"ميثاق بغداد" عام 1955، ثم تبعه توركت أوزال بطروحاته مع سقوط المنظومة الاشتراكية، وانتهى عند اردوغان أوغلو بالإعلان عن مبدأ "صفر مشاكل" في بدايات القرن الواحد والعشرين!

لقد عزز أوغلو طروحاته برؤية قاصرة، انتهت بالتدخل في شؤون الآخرين، سواء مع حركة حماس في المنفى، أو في التوتر بين إيران والغرب، أو في الشأن العراقي واللعب مع إقليم كردستان وادعائه أنه يلعب دوراً تصالحياً، أو في العلاقات مع دول البلقان، أو في الشأن السوري ومن ثم انسحابه، أو تدخله في شؤون مصر وثورتها.. ودور أوغلو في أثينا، وبالذات في مؤتمر منظمة التعاون الأمني الأوروبي (OSCE)، وأيضاً في أروقة اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي في بروكسل..

لقد قام أحمد داوود أوغلو بدور "المعلم"، فنالت سياسته سخطاً داخلياً وخارجياً، إذ بدا واضحاً في الأيام اللاحقة أن فشلاً ذريعاً سيلاقيه، بعد أن جعل "العثمنة الجديدة" حصاناً خاسراً في ميدان الشرق الأوسط، وتعريض المصالح التركية واستراتيجيتها للخطر.. ولم ينفعه التراجع عما كان قد طرحه من تنظيرات أراد أن يطبقها من خلال إسلامه السياسي في المنطقة.

إن مبدأ "صفر مشاكل" الذي طرحه أحمد أوغلو ربما نجح في بداية الأمر، ولكنه لم يكن عفوياً أو صافياً لوجه الله، بل وقفت من ورائه فكرة كاسدة لا تصلح لهذا الزمن، فطرح "عثمنة جديدة" قد أثار استياء عدة شعوب كانت قد طوت ذاكرتها القديمة عن تاريخ إمبراطورية رحلت بكل سلبياتها وإيجابياتها.. وتسارع الأحداث بسرعة كبيرة قد خيبّ آمال العثمانيين الجدد، سواء كان ذلك - مثلاً - في البوسنة والهرسك حيث أثارت البعد النفسي لدى شعوب البلقان، مع تجاوب بعض الإسلاميين العرب معها بإثارة حلم الرجوع للسحر العثماني، والذاكرة الموهومة التي لا تعرف إلا الدين شراكة، مع نسيان كل السلبيات التي ازدحم بها الماضي القريب لما قبل الحرب العالمية الأولى!

وهكذا أثارت أطروحة "العثمنة الجديدة"، المخيلة للذاكرة السلبية الألبانية والصربية والبلقانية بشكل عام، مثلاً، بكل تأثيراتها الواسعة، وكتبت صحف عديدة محذرة أو مبشرة من قدوم العثمانيين الجددThe New Ottomanisers، وبدا هؤلاء الزعماء من الإسلاميين الترك الجدد، وعلى رأسهم أحمد داوود أوغلو، لا يعرفون كيف يكون الرد، ولا كيف يتم توضيح خارطة طريق تركيا في سياق عثمنة جديدة.. كما ظهروا للعالم مادة خصبة لانتقاد الخصوم، وفي مقدمتهم النخب التركية المعلمنة، التي وصفت أوغلو بأنه داعية سياسي وليس عالماً أكاديمياً، بعجزه عن تعريف ما طرحه للعالم، وقد خلق مشكلات لتركيا كانت في غنى عنها.

لماذا؟ لأننا في زمن متقدم معاصر غير الزمن العثماني، وتجديد التاريخ لا يتم هكذا بطريقة ساذجة ومن دون فهمه تماماً، وقبل أن يصبغ بأية صبغة دينية أو إيديولوجية أو ثقافية. إن توظيف هذه الجماعة للتاريخ لا يمكن أن يجري من خلال استعارتهم بمثل هذه الطريقة الساذجة، لتجارب إمبراطورية قديمة رحلت قبل قرابة مئة سنة.. خصوصاً وأن الذاكرة التاريخية عن العثمانيين القدماء لا يمكن توظيفها باستعادة شعاراتها، قبل أن ندرك ما قدمته للعالم في زمنها فقط.

من طرف آخر، فإن الذاكرة التاريخية العثمانية لا يمكن أن تحتكر من قبل الأتراك وحدهم، بل إنها مغروسة بكل ما حملته من إيجابيات وسلبيات، حتى في المناطق النائية من تلك المنطقة الجغرافية التي امتدت إليها أجنحة العثمانيين على مدى أربعة أو خمسة قرون..

إن الفضاء العثماني الراحل لا يمكن أن يستعيد قوته على أيدي عثمانيين جدد من أجل مصالحهم الضيقة، وعليه فإن مشروعهم الجديد والقائل بأن تركيا تريد إعادة تأسيس "هيمنة"، سيعيش في فراغ مع اختلاف النهج والسيرورة والرؤية. لقد مات شعار "صفر مشاكل"، فهل يمكن تفعيله ضمن رؤية من نوع آخر؟