أهداني الأستاذ الدكتور عبد الرسول الموسى، مشكوراً، كتابه الجديد الذي يحمل عنوان المقالة، حيث يسلط الضوء فيه على مدينتين عربيتين تشتركان وتختلفان في خصائص معينة. والمدينتان هما مدينتا الكويت وبيروت، وتشتركان في كونهما تتبعان نمطاً من الدول يسمى بدولة المدينة، أي الدولة صغيرة المساحة.
فالكويت لا تصل مساحتها ثمانية عشر ألف كيلو متر مربع، في حين لا تتعدى مساحة لبنان عشرة آلاف وخمسمئة من الكيلومترات المربعة، بيد أن الدولتين لهما ساحلان طويلان قياساً إلى مساحتيهما.
ولعل هذا العامل الجغرافي، هو ما جعل المدينتين مركزين تجاريين منذ النشأة الأولى.
كانت بيروت منفذاً لبلاد الشام، أما مدينة الكويت فكانت ميناء يخدم شمال الجزيرة العربية. وبيروت يمتد عمرها طويلاً في التاريخ، ربما أكثر من أربعة آلاف عام، أما مدينة الكويت فلا يتجاوز عمرها كثيراً ثلاثمئة عام. والمدينتان كلتاهما تربضان على خزان، أما ما يملأ خزان (أو بالأحرى خزانات) بيروت فهو الماء العذب، الذي اكتسبت منه اسمها في اللغات السامية.
في حين أن مدينة الكويت تربض على خزان ضخم من النفط، بدأ تصديره منذ عام 1946 ليقلب حياة المدينة والدولة رأساً على عقب. والمدينتان اكتسبتا أهميتهما التاريخية في وقت متقارب، إذ بعد أن كانت بيروت قرية صغيرة، إذا بها تصبح عاصمة لولاية عثمانية تحمل اسمها، وذلك في عام 1888.
والكويت أيضاً برزت كمدينة مهمة حينما بدأت الأطماع الاستعمارية تحوم حولها، وتحديداً حينما طرح مشروع مد خط سكة حديد من برلين مروراً بالبلاد العربية، لينتهي ذلك الخط في ميناء الكويت، وذلك أيام الشيخ مبارك الكبير الذي حكم من عام 1896 إلي 1915.
والمدينتان شهدتا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تغيراً في تركيبتهما السكانية، فضلاً عن أعداد السكان فيهما. فبيروت تلقت طلائع اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة في عام 1948، ثم بدأ النزوح الداخلي من مناطق الجبل وغيرها طلباً للعمل والتجارة. وأخيراً، نزح إليها أهل الجنوب، بفعل العدوان الإسرائيلي المتكرر والاجتياح والأعمال العسكرية بشتى أنواعها. بمعنى آخر، أضحت بيروت منذ أواخر القرن الماضي بوتقة تضم كل شرائح وطوائف المجتمع اللبناني.
أما تغير التركيبة السكانية في الكويت شأن باقي المجتمعات العربية الخليجية فكان بفعل الهجرة التي أتت من كل فج عميق، لتصبح الكويت مجتمعاً زاخراً بجنسياته المتعددة، وليزيد سكانه من مئة ألف قبل عام تصدير النفط، إلى ثلاثة ملايين ونصف، يشكل المواطنون ثلثهم فقط.
تعرضت المدينتان إلى ظروف سياسية سيئة، وحروب أفقدتهما مكانتهما بوصفهما ميناءين مهمين في المنطقة. فقد كانت بيروت ميناء مهماً للبضائع الداخلة إلى العمق العربي، مثل العراق والكويت وغيرهما، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكانت الكويت مركزاً تجارياً للمنطقة، ترسو في مينائه السفن القادمة من البصرة وعبدان وغيرها من الموانئ.
وشلت الحرب الأهلية الممتدة من عام 1975 إلى 1992 ميناء بيروت، وحجمت القيود الأمنية التي ظهرت أيام الحرب العراقية الإيرانية ثم احتلال العراق للكويت وما تلا ذلك نشاط، موانئ الكويت التجارية.
حمل أهل المدينتين نفس الروح: حب المغامرة والسفر والبحث عن الرزق في كل الأصقاع، لكن الكويتيين تخلوا عن تلك الروح بعد أن ركنوا إلى النفط مورداً لرزقهم والوظيفة الحكومية نشاطاً يعتاشون منه، وبالتالي تحولوا إلى جمهور غير منتج، يأخذ فيه الفرد "قيلولة" طويلة بعد عمله الحكومي المريح، ليقضي أماسيه في الديوانية إلى منتصف الليل!
أما أهل بيروت واللبنانيون بشكل عام، فقد حافظوا على روح المغامرة تلك، وعملوا في كل النشاطات، وأبرزها التجارة في الداخل وفي المهاجر. فهم لم يهاجروا إلى البلاد العربية النفطية كالكويت وحسب، بل انتشروا في جميع أرجاء المعمورة. وتمثل تحويلاتهم المالية فضلاً عن مشاريعهم في الداخل ركيزة مهمة من ركائز الاقتصاد اللبناني. فقد حول ربع المليون من اللبنانيين الذين يسكنون الكويت، أكثر من ثمانية مليارات من الدولارات إلى بلادهم في سنة واحدة وهي 2012. ولم ينس أهل بيروت ولبنان بشكل عام، كيف يستفيدون من جمال الطبيعة، فأضحت بلادهم مقصداً للسياح العرب والأجانب.