دروس الماضي وأسئلة الحاضر والمستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتحدث هنا عن التجربتين الثوريتين في مصر وتونس، اللتين اشتركتا في الكثير من قسمات الثورة الشعبية السلمية، بمساراتها الوطنية والديمقراطية، وبدور الجيش والقضاء فيها، والبعيدة عن عسكرة الثورة ومآلاتها الدموية الكارثية، رغم الفوارق في الأطر والآليات والمكونات..

وعن أساليب التدخل العسكري الغربي المباشر، كما حدث في العراق وليبيا، وغير المباشر في سوريا واليمن، خصوصا بعد أن كسر الشعب العربي في البلدين الشقيقين حدة البداية للمرحلة الأولى من الانتقال من الثورة إلى الدولة، رغم تحديات الإرهاب والتدخلات الأجنبية، بإنجاز الدستور التوافقي في يناير 2014، في تونس بتصويت المجلس التأسيسي الذي يهيمن عليه الإسلاميون بنسبة 92%، وفي مصر بالاستفتاء الشعبي المباشر بنسبة 98% بمقاطعة الإسلامويين.

أتساءل بعد مرور السنوات الثلاث العجاف الماضية، والتي قد تمتد إلى سبع، عما أطلق عليه الإعلام الغربي، لغرض في نفوس أصحابه، وصف "الربيع العربي"، بمقدماته المبررة وتداعياته المدبرة، وبأيامه الثقيلة والدامية، وما نزف فيه من دماء بأيدي الأشقاء، وما سقط من شهداء بأيادي الإرهاب وتخطيط الأعداء، وتسليح وتمويل العملاء في أكثر من بلد عربي وإسلامي!

وأظن أننا لم نعد بحاجة الآن لإعادة شرح حقيقة مجريات هذا "الربيع" وما جرى فيه من انتفاضات شعبية، ومتغيرات سياسية، واضطرابات اقتصادية واجتماعية وأمنية، وسجالات فكرية، ومواجهات دموية وهجمات إرهابية، ومآسٍ إنسانية، بعدما سقطت الأقنعة عن كل الوجوه الخبيثة والغادرة الأجنبية والمحلية، وظهرت لشعوبنا طبيعة كل أعوان الشياطين بأصابعهم الدموية الشريرة!

كما لم نعد بحاجة أيضا لإعادة رصد حقيقة حصاد الربيع المر والحلو، بما فيه من دواعي التشاؤم وأسباب التفاؤل، بعدما عرف الواعون من شعبنا العربي، الفارق بين الثورة البناءة والمؤامرة الهدامة، وبين الأعداء والأصدقاء، وبين الوطنيين والثوريين الأصلاء، والثورويين والإسلامويين الأدعياء، وطبيعة من يقف ضد تحقيق آماله الكبرى ومن يقف معها، ومن هو العدو ومن هو الشقيق والصديق.

لكني، بعد ثلاث سنوات من دروس التجارب الكبيرة والمريرة المعتمة والمضيئة، أعتقد أننا بحاجة الآن أكثر، في الوطن العربي عموما وفي مصر العربية خصوصا، لاستخلاص الدروس، وإعادة تصحيح المعادلات المختلة في بعض العقول المحتلة، وإعادة ضبط اتجاه البوصلة العربية إلى الاتجاه الصحيح، نحو الأهداف الكبرى للشعوب العربية في استعادة استقلال الإرادة الوطنية بلا تبعية أو هيمنة أجنبية..

وتأكيد شرعية الإرادة الشعبية بلا وصاية، وتحقيق ديمقراطية القرارات السياسية والسيادية، واحترام حقها في حرية الاختيار وتحديد المسار والمشاركة في صنع القرار، وأننا بحاجة حقيقية إلى سرعة استكمال الانتقال من الثورة إلى الدولة، مع الفارق الكبير بين السرعة والتسرع، ومن الانقسام والفوضى إلى الائتلاف الوطني وبناء مؤسسات النظام الدستوري الديمقراطي العادل، واعتماد الحوار الموضوعي الثقافي والسياسي والمجتمعي، عبر المؤتمرات والمنتديات والمؤسسات البرلمانية ليكون شأنا يوميا على جميع المستويات.

كما أننا بحاجة فورية وعملية لتنشيط فعاليات المجالس الوطنية المتخصصة عموما، ومجالات الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية والاستراتيجية والاستفادة بتوصياتها، خصوصا في مجالات المياه والغذاء والطاقة، لرسم ملامح خريطة للمستقبل نحو التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والكرامة الإنسانية، بلا ابتزاز إعلامي أو إرهاب فكري أو وصاية نخبوية.

وربما كان رسم ملامح خريطة المستقبل في مصر يحتاج، بعد استخلاص دروس الماضي، إلى الإجابة على أسئلة الحاضر وعلى سؤال المستقبل، التي عادت لتطرح نفسها من جديد، بالتنظير والضبابية المتفائلة أحيانا والمتشائمة غالبا، في جو من السجال الفكري والجدال المحموم، لغياب التحديد لما يريده أو ما لا يريد عموم شعوبنا، وليس مجرد نخبنا أو ساستنا أو أحزابنا ومنظماتنا.. تحت كل الأسماء!

والحديث عن المستقبل له أبعاد ثلاثة، على المدى القريب والمتوسط والبعيد.. فعلى المستوى الأول تعيش مصر كما ستعيش تونس، أجواء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حتى قبل إصدار قانون الانتخابات وفتح باب الترشح للرئاسة، والسمة العامة السائدة هي المطالبات الشعبية القوية للمشير عبد الفتاح السيسي بالترشح للرئاسة، حيث استقر في وجدان الغالبية كبطل وطني، بينما قرار الترشح لم يعلن رسميا بعد. والسمة الثانية هي أن الشعب المصري والإدارة السياسية، يريدانها انتخابات تعددية تنافسية حرة.

وبينما أعلن مرشح التيار الإسلامي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح تراجعه عن الترشح، لشعوره بالخوف من جمهورية الخوف المزعومة، تقدم لإعلان نيته للترشح بشجاعة ودون خوف الأستاذ حمدين صباحي مؤسس التيار الشعبي.. والبقية تأتي!

وبعد الانتخابات الرئاسية بشهر واحد، تأتي انتخابات برلمانية مفتوحة لجميع التيارات، على أساس أن دستور 2014 الشعبي لم يعزل أي فصيل سياسي، بعكس دستور 2013 الإخواني الذي قرر عزل قيادات الحزب الوطني لعشر سنوات. وبتحديد رئيس مصر القادم، وانتخاب البرلمان الجديد ديمقراطيا، تدخل مصر في ثورة تشريعية لتعديل القوانين الحالية، للتوافق مع الدستور الديمقراطي الجديد.

وبهذا يتحقق الانتقال من نظام استبدادي ساقط إلى نظام وطني صاعد، بتأسيس مؤسسات الدولة الرئيسية الثلاث، التي تشكل القاطرة لبقية عربات المؤسسات الفرعية، ليتخذ القطار طريقه على المدى المتوسط للمستقبل، ولا بد له أن يفتح الطريق للانتقال بعد ذلك من عصر إلى عصر، وليس مجرد الانتقال من نظام إلى نظام.

وهكذا يصبح المطلوب في المرحلة المقبلة، هو استيعاب عميق لدروس الماضي، وتشخيص واضح لتحديات الحاضر، وخطة عبور استراتيجية شاملة للتنمية على جميع الأصعدة، قابلة للتحقق وفق الموارد المتاحة والمنظورة، وتتسم بالعلمية والمرحلية، واقعية في طموحاتها وطموحة في واقعيتها، تلبي مطالب الجماهير الشعبية التي رفعتها في الميادين لتتجاوز ما تعانيه في الحاضر، وصولا إلى ما تتطلع إليه في المستقبل.

 

Email