مصر وروسيا من عبد الناصر إلى السيسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو مهماً التأكيد على عدة حقائق، تجيب على أكثر من سؤال حول الاهتمام الأميركي المتصاعد بإبقاء مصر تحت مظلتها كدولة تابعة سياسيا واقتصاديا، قبل الحديث عن العلاقات المصرية الروسية وما شهدته من مد وجزر، وعن مقدمات ونتائج الزيارة الاستراتيجية الهامة للمشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري، ونبيل فهمي وزير الخارجية إلى موسكو، والاستقبال الحار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتن..

ونظيريهما الروسيين شويغو ولافروف، في ظروف مصيرية تتصل بالأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي، بأصدائها الواسعة وردود فعلها إقليمياً ودولياً. فأميركا تحرص على منع تنمية مصر وتحجيم قوتها ومحاولة عزلها عن محيطها، ولو بتحريك أدواتها (الإرهابية والمدنية) لنشر الاضطرابات والفوضى وتهديد الأمن الوطني المصري، في إطار مصالحها المتمثلة في الهيمنة منفردة بواسطة إسرائيل على الشرق الأوسط. وحول الدعم الروسي المتزايد لمصر..

فإنه يأتي استجابة لمتطلبات تنميتها وقوتها واستقرارها حماية لأمنها الوطني، بعد ثورة يونيو الشعبية، ودعما لإرادة الشعب المصري في الاستقلال والتنمية، وتحقيقا لمصالح روسيا أيضا بمنع الانفراد الأميركي بالشرق الأقرب لروسيا، وبالتصدي للإرهاب الإسلاموي حمايةً للأمن الوطني الروسي.

ولأن حقائق التاريخ إضاءة لفهم الحاضر في الطريق إلى المستقبل، وثوابت الجغرافيا أساسية لصنع السياسات الاستراتيجية، وباعتبار مصر هي الدولة الكبري في قلب الوطن العربي والقارة الإفريقية، وإحدى أهم الدول الإقليمية الكبرى في الأمة الإسلامية، فإن علاقة التأثير والتأثر المتبادل بين الأمن الوطني والقومي والإقليمي، طبيعية وجبرية ومصيرية وفاعلة، سواء أرادت مصر أو لم ترد، وسواء أراد محيطها أو لم يرد، فذلك قدر ووجود شعب مصر وشعوب أمتيها المشترك.

أولا: تاريخيا، مصر كانت هي أرض أولى وأعرق الحضارات الإنسانية في العالم، وقد تميزت الحضارة المصرية بتأسيس أول وأعرق دولة في التاريخ، بحدودها الحالية تقريبا.

ثانيا: مصر في جل العهود وعلى اختلاف كل النظم السياسية التي حكمتها، لم تقوِّ جيشها إلا للدفاع عن أرضها وشعبها ضد كل الغزاة، ولم تدفع جيوشها إلى خارج حدودها إلا للدفاع عن أمنها الوطني أو أمنها القومي، بل إن أعظم معاركها وانتصاراتها كانت دفاعا عن وطنيتها المصرية وقوميتها العربية ودينها الإسلامي، ضد غزوات الفرنجة على الشرق، وضد المستعمرين الصليبيين، وضد الغزاة التتار، وضد المعتدين الصهاينة والإنجليز والفرنسيين والأميركان.

ثالثا: إن مصر دوماً كانت تدرك عن يقين أن الأمن الوطني المصري لا ينفصل عن الأمن القومي العربي، وأن أمن الوطن العربي لا ينفصل عن أمن الأمة الإسلامية، وهو ما بلورته ثورة 23 يوليو المصرية الأم في توجهاتها الفكرية وثوابتها المبدئية، وما ترجمته دوائر سياستها الخارجية ومواقفها التاريخية المتصدية لكل استعمار أو تبعية، والمدافعة عن كل استقلال وحرية لكل دولة عربية أو إفريقية.

رابعا: إن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر في قلب العالم بين الشرق والغرب وفي قلب أمتها العربية، ومكانتها الحضارية ووزنها البشري ودورها التاريخي وقوتها العسكرية، كل ذلك جعل منها في الوقت ذاته هدفا لأطماع المستعمرين في السيطرة على الشرق، وعرض أمنها الوطني للتهديد الخارجي بأدواته الداخلية.

خامسا: إن مصر بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، توجهت في بداية ثورة يوليو الوطنية نحو أميركا، أملا في تطبيق مبادئ ويلسون الشهيرة، المنادية بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، لكن السياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل المحتلة للأرض العربية خيبت آمالها، بل كشفت عن وجه أميركي جديد للاستعمار الأنجلو فرنسي القديم!

سادسا: إن مصر في حروبها مع إسرائيل، كانت تجد أميركا دائما مع إسرائيل بالمال والسلاح والسياسة ضد مصر، بينما كانت روسيا دائما تقف مع مصر بالسلاح والدعم السياسي، وكانت مصر في جميع معاركها التنموية تواجه بمواقف أميركية مضادة لمساعيها، بينما سارعت روسيا لدعم برامج التصنيع والتسليح المصري، حتى أن حروبها وانتصاراتها كانت بسلاح روسي. سابعا:

إن تناقض السياسة الأميركية وازدواجيتها تجاه الشعب المصري، قد أسقطت الأقنعة الزائفة لها التي تروج بها لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، خصوصا في مقاربتها لثورة يناير التي وظفتها لتصعيد حليفتها الجماعة الإخوانية للحكم، والتي ناقضت نفسها بوقوفها مهددة وضاغطة بوقف تسليح الجيش المصري، عقابا له على دعمه لإرادة الثورة الشعبية ضد الجماعة الإخوانية!

لذلك كله لم يكن غريبا ما حرص عليه الرئيس الروسي، خلال استقباله للوفد المصري العسكري والسياسي استقبالا غير تقليدي يليق بمكان ومكانة مصر العربية والإقليمية والدولية، وما أبداه من استعداد لدعم استقرار مصر وتقوية جيشها لمحاربة الإرهاب قائلا: «إن افتقار مصر، وهى الدولة المحورية للعالم العربي، إلى الاستقرار هو خطر على مصر والمنطقة كلها، لأنه من المستحيل التكهن بتطورات الوضع فى المنطقة عندما تكون مصر ضعيفة".

وكذلك كان طبيعيا وصادقا ما قاله المشير السيسي للرئيس بوتن، الذي رفع المصريون صوره مع عبد الناصر والسيسي في ميدان التحرير، بأن "مصر وشعبها يقدران العلاقة التاريخية التي تربط بين مصر وروسيا.. وإن الشعب المصري سيظل وفيا لمن وقفوا مع إرادته الوطنية، مثلما لا ينسى من وقفوا ضد إرادته في تحقيق الاستقلال والتنمية والدفاع عن أمنه القومي".

من هنا كان أبرز ما نتج عن هذه الزيارة الاستراتيجية، هو صفقة الأسلحة الضخمة بدعم إماراتي وسعودي كجزء من التعاون العسكري بين البلدين الصديقين، باعتبار أن اختلال ميزان القوى العسكرية في المنطقة بضعف قوة مصر، يخل بالاستقرار السياسي ويفتح الطريق لقوى الإرهاب الداخلي والعدوان الخارجي، كما كان الاهتمام كبيرا بدعم التعاون الاقتصادي، لدعم الجهود المصرية في زيادة الاستثمار والتنمية لمحاربة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ولهذا كان رد الفعل مثيرا لقلق واشنطن وتل أبيب، ومن المتوقع محاولتهما بأدواتهما المختلفة، عرقلة التحول من الثورة إلى الدولة، وإفشال بناء القوة والتنمية المصرية، بإثارة الفتن والاضطرابات والعمليات الإرهابية والحملات الإعلامية والمقاطعة الاقتصادية. لكن الثقة الشعبية غلابة في مستقبل قادم لمصر، يعيد إلى الأذهان من جديد غباء الإخوان والأميركان في محاولتهم الوقوف ضد ثورة يوليو بقيادة الرئيس عبد الناصر، ويفتح الباب واسعا لسياسة مصرية مستقلة، لا تعرف التبعية أو الانحياز.

 

Email