وضوح إسرائيلي وتجاهل فلسطيني لما بعد فشل المفاوضات

ت + ت - الحجم الطبيعي

بمرور المزيد من الوقت، تتضاءل فرص وزير الخارجية الأميركية جون كيري، في إقناع أو إرغام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالقبول بتسوية معقولة، تلبي الحد الأدنى من مطالب ومصالح وشروط الطرفين.

بعد لقائه وزير الخارجية كيري نهاية الأسبوع الماضي في باريس، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن الجهود الأميركية لتحقيق التسوية فشلت حتى الآن. إعلان عباس ليس مبكراً، فلقد قطعت المفاوضات سبعة أشهر من أصل التسعة المتفق عليها، دون أن يحقق كيري أي نجاح أو تقدم. لكن عباس لم يغلق الطريق على ما تبقى من وقت، وإنما تصريحه المزعج للإدارة الأميركية يعبر عن حالة من الإحباط، وربما اليأس من إمكانية تحقيق اختراق مهم

. التصريح بحد ذاته، ينطوي على لهجة تحدٍّ للإدارة الأميركية، وهي التي تتحدث عن تقدم في المفاوضات، وكأن الرئيس عباس سمع من كيري في باريس ما يثير حفيظته، ويخرجه عن صبره الطويل.

الأشهر السبعة الماضية لم تكن سوى مفاوضات استكشافية، حاول كيري من خلالها التعرف بعمق إلى ممكنات جسر الهوة السحيقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والخروج بصيغة ما وسطية، ليس بمقدوره أن ينجح فيها لضمان تمديد المفاوضات، والسبب الأساسي هو أن الجهد الأميركي يفتقر إلى الحد الأدنى من النزاهة والحيادية.

ورغم أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يتهمون كيري بالانحياز للفلسطينيين، إلا أن مياه كيري تكذب الغطاس الإسرائيلي، ذلك أن مواقف كيري وإدارته إزاء القضايا الرئيسية في ملف المفاوضات، لا تختلف كثيراً عن المواقف الإسرائيلية.

كيري يتبنى المطالبة الإسرائيلية للفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة، ويتبنى الموقف ذاته الرافض لحق الفلسطينيين في العودة، ويسعى عملياً لتوطين وتجنيس اللاجئين وإغرائهم بالتعويضات، وإلى حد كبير يتبنى المطالب الإسرائيلية الأمنية، والحال ذاته إزاء موضوع القدس التي يصر الفلسطينيون على أنها عاصمة دولتهم. أما على صعيد الخلافات الإسرائيلية والفلسطينية، فقد سجل الفلسطينيون ثباتهم نسبياً على مطالبهم وحقوقهم المعروفة والمعلنة، لكنهم أبدوا مرونةً إزاء العديد من الملفات الساخنة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تحريك معقول في مواقف الطرفين الإسرائيلي والأميركي التي تزداد تصلباً.

الرئيس عباس وافق على ترتيبات أمنية في منطقة الغور وعلى الحدود مع الأردن، من خلال طرف ثالث أميركي أو أطلسي، ووافق على حل ملف اللاجئين وفق ما نصت عليه المبادرة العربية للسلام، وقال بالفم الملآن إن الفلسطينيين لا يريدون إغراق إسرائيل باللاجئين، ووافق على جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي من الضفة خلال خمس سنوات، بعد أن كان وافق على ثلاث، ووافق أيضاً على مبدأ تبادلية الأراضي بنسبة 3%. مقابل ذلك لم يبد الإسرائيليون أية إشارة على استعدادهم لإبداء شيء من المرونة إزاء أي ملف، لا بل يضيفون شروطاً جديدة بين الحين والآخر.

ويلخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطالب والشروط التي سيقدمها للرئيس الأميركي باراك أوباما، عندما يلتقيه في واشنطن بداية مارس المقبل، على النحو التالي:

أولاً: أن إنهاء الصراع يتطلب موافقة على ما يعتبره حقاً تاريخياً لإسرائيل، بالاعتراف بالدولة القومية للشعب اليهودي، وإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

ثانياً: تدابير أمنية تضمن أمن المواطنين والدولة مستقبلاً، وتصر إسرائيل على أن يكون وجودها الأمني والعسكري هو الضمانة المقبولة.

ثالثاً: إعادة تفعيل الملف النووي الإيراني، ومطالبة الولايات المتحدة بالعمل جدياً من أجل منع إيران من إنتاج أسلحة نووية.

ثمة مطالب أخرى ذات طبيعة اقتصادية وتكنولوجية، سيتقدم بها نتنياهو أمام الرئيس أوباما، وكلها تدخل في إطار خلط الأوراق، وتعظيم المكاسب الإسرائيلية، وإشراك الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في دفع فاتورة السلام الذي تريده إسرائيل على مقاسها.

وهكذا تريد إسرائيل أن تتفاوض مع نفسها، وفي أحسن الأحوال مع شريكتها الولايات المتحدة، أما جسر الهوة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي فإنه يحتاج إلى ساحر موصوف، أو إلى تدخل يد القدر، أما البشر العاديون، سواء كان كيري أو غيره، فإنهم لا يملكون القدرة على تحقيق النجاح. الوقت المتبقي لعمر المفاوضات آخذ بالنفاد، ولا يبدو أن كيري يملك مفاتيح معالجة التعقيدات الهائلة التي تحول دون تحقيق النجاح، لكنه في أحسن الأحوال قد ينجح في الحصول على موافقة الطرفين لتمديد عمر المفاوضات.

إنما من دون جدوى، فالزمن وحده غير كافٍ لاجتراح حلول ترفضها بعناد الوقائع الصعبة على الأرض. من الواضح أن الإسرائيليين يعرفون ماذا يريدون، ولديهم إجابات عن سؤال اليوم التالي لفشل المفاوضات، فهم يمسكون العصا بقوة ويخططون لسنوات مقبلة، غير أن الفلسطينيين الذين لا يملكون سوى قوة الحق الذي تحول دونه الأمم المتحدة والولايات المتحدة، لا يملكون إجابات واضحة وقوية على أسئلة المستقبل.

قد يدعي بعض المسؤولين الفلسطينيين جاهزية ردودهم على سؤال اليوم التالي لفشل المفاوضات، غير أن وقائع السياسة اليومية الفلسطينية لا تشير إلى ذلك، ولا نعتقد أن الانقلابات السياسية الفجائية في الخيارات والمسارات يمكن أن تنجح.. فحتى نتوقع سقوط المطر لا بد أن تظهر الغيوم والسحب، وهذه لم تظهر بعد في سماء السياسة الفلسطينية.

Email