أوكرانيا بين المطرقة الأميركية والسندان الروسي

ما جرى ويجري في أوكرانيا على مدى الأسابيع القليلة الماضية، يطرح أكثر من علامة استفهام وتعجب، حيث تصاعدت تظاهرات لفلول الثورة البرتقالية بقيادة النشطاء الموالين للغرب، ضد الرئيس المنتخب فيكتور يانكوفتش، احتجاجاً على رفضه لاتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، يورط أوكرانيا بالانضمام لحلف الناتو والتبعية للغرب، على حساب علاقاتها الوجودية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع روسيا.

وهذه الاضطرابات العنيفة، بقطع الطرق واحتلال وزارات ومؤسسات الدولة، واعتصامات مسلحة في الميدان، على غرار اعتصام رابعة الإخواني في مصر، واشتباكات مع رجال الشرطة الأوكرانية سقط فيها عشرات القتلى ومئات المصابين في الجانبين، على عكس الثورة المخملية السابقة، تفوح منها روائح الثورات الملونة التي خطط لها بدفع أميركي ضد الأنظمة الاشتراكية، حتى لو كانت شرعية وديمقراطية!

والسؤال هو؛ هل هناك اتصال بين تلك "الثورة البرتقالية" السلمية الموالية للغرب في أوكرانيا عام 2004، بدعم أميركي وأوروبي وبقيادة زعيم النشطاء يوشينكو وأميرة البيزنس تيموشينكو، ضد الرئيس المنتخب يانكوفتش، بزعم تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية..

وبين هذه "الاضطرابات الدامية" التي تحولت إلى "انقلاب برلماني" عام 2014، بدعم أميركي وأوروبي ضد نفس الرئيس يانكوفتش، الذي أعاده الشعب إلى الحكم عام 2010 في انتخابات ديمقراطية نتيجة فشل أداء "الثوار البرتقاليين"، وتفاقم الفساد وتدهور الاقتصاد إلى حافة الإفلاس؟

وهل هناك صلة بين ما جرى في الجمهوريات السوفييتية المستقلة، من "ثورات ناعمة ملونة" غربياً بألوان برتقالية ووردية وقرمزية، وما جري في الجمهوريات العربية المستقلة من "ثورات دامية ربيعية"، بأسماء زهور الياسمين واللوتس والأرز مع بدايات الألفية الثانية؟ وما هي أوجه المقارنة بين ما جرى في أوكرانيا في ما يسمى "الربيع السوفييتي"..

وما جرى في مصر وسوريا كنماذج لما يسمى "الربيع العربي"؟ وما الرابط بين الربيع هنا والربيع هناك، في إطار اكتساب الصراع بين الشرق والغرب في ظل الحرب الباردة، لأشكال جديدة من التنافس والصراع بين أميركا وحلفائها وروسيا وأصدقائها، على رقعة الشطرنج الدولية؟

وسط هذه التساؤلات، وفي مثل تلك الملابسات، لم أستغرب ذلك السؤال الذي وجهه لي مذيع عربي في فضائية إخبارية، مقارناً بين الدور الروسي في سوريا وفي أوكرانيا، مشيراً إلى أن "بوتين السوري ربما يختلف عن بوتين الأوكراني"، وسائلاً هل يمكن حل الأزمتين في سوريا وأوكرانيا إذا ما تشدد بوتين؟!

وأجبته بسؤال آخر قائلًا: وهل تمكن مقاربة الأزمة في سوريا وفي أوكرانيا بالحديث عن الدور الروسي فقط، دون الحديث عن الدور الأميركي؟ وهل يختلف "أوباما السوري" عن "بوش الأوكراني"؟!

ثم، لعل ما يجري في أوكرانيا أقرب لما يجري في مصر، فأميركا تتدخل في البلدين وتنقلب على الديمقراطية في الحالتين، فتصف الانقلاب على رئاسة شرعية منتخبة قبلت بالاحتكام ديمقراطياً إلى انتخابات رئاسية مبكرة لحل الأزمة في أوكرانيا، بأنه "ثورة شعبية في اتجاه الديمقراطية" بخمسين ألف ناشط فقط، ليس لأن النشطاء ثوار، ولكن لأنهم يريدون التبعية للغرب!

لكنها تغمض عيونها عن الثورة الشعبية بثلاثين مليون مواطن في مصر، على رئاسة فقدت شرعيتها بالانقلاب على الدستور ورفض الاحتكام ديمقراطياً لانتخابات رئاسية مبكرة، لحل الأزمة السياسية طبقاً للإرادة الشعبية، بأنه "انقلاب عسكري على الديمقراطية"، ليس لاستجابة الجيش لأمر الشعب، ولكن لرفض الثوار المصريين للتبعية الأميركية!

أميركا هنا وهناك هي التي تفقد مصداقيتها كداعية للديمقراطية، بمناهضة للشرعية في الحالتين، بينما وقفت روسيا مع الديمقراطية هنا ومع الشرعية هناك حين احترمت إرادة الشعب المصري، ومع القانون الدولي حين رفضت التدخل الأميركي في البلدين لمحاولة فرض إرادتها على إرادة غالبية الشعبين، وتصعيد أتباعها للرئاسة في البلدين.

ورأيي أن ما جرى ويجري في الشرق من "فوضى غير خلاقة" في العقد الأول من القرن الحالي، الذي خططت له "الثنك تانكز" في واشنطن ليكون "قرناً أميركياً"، وفق استراتيجية على مرحلتين، لا يعدو كونه محاولة صهيو أميركية للانفراد بالسيطرة على الشرق، تنفيذاً لنظرية "الفوضى الخلاقة"!

وسواء في ما سمي "الثورات الملونة" في الجمهوريات السوفييتية لحصار روسيا أو تهديدها، وآخر تجلياتها أوكرانيا وغزوها من الداخل لضمها إلى النفوذ الغربي "بالعنف الثوري"، أو في ما سمي "الربيع العربي" في الجمهوريات العربية التي حاربت إسرائيل عام 1973، انتقاماً من جيوشها ولحصار مصر أو عزلها، وآخر تجلياتها سوريا بالغزو من الداخل لإخراجها من الوجود العربي "بالعنف الجهادي"..

يبدو بوضوح أن ما يجري هو سعي محموم من الغرب ممثلاً في حلف الأطلسي، لمواصلة تصفية آثار ما بعد الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الغربي ومن كانوا حلفاءه، والمعسكر الاشتراكي الشرقي ومن كانوا أصدقاءه!

لقد حاول بعض المحللين الغربين تعسفاً تشبيه ما جرى ويجري في أوكرانيا بما جرى ويجري في سوريا، سعياً للإشادة بالدور الأميركي وإدانة الموقف الروسي في الحالتين، بمحاولة تصوير الدور الأميركي على أنه داعم لثورات الشعوب وللديمقراطية، وتصوير الدور الروسي بأنه داعم للأنظمة الديكتاتورية..

بينما الحالة الأوكرانية البرتقالية تختلف عن الحالة السورية الحمراء، والدور الأميركي فيهما يمثل مصالح أميركا ورؤيتها الاستراتيجية الخاصة، فيما يستند الموقف الروسي على أن التدخل الأميركي يُشكّل انتهاكاً للقانون الدولي وللمواثيق الأممية، بمحاولة إسقاط نظم الحكم بالقوة عبر تحريك التمرد الثوري الممول هنا أو القتال الجهادي المسلح هناك!

لهذا، لا تريد أميركا ونشطاؤها الاحتكام لانتخابات رئاسية ديمقراطية مبكرة وافق عليها الرئيس المنتخب يانكوفتش في أوكرانيا، فدعمت التمرد العنيف للناشطين الموالين للغرب لإسقاطه، مثلما لا تريد وأتباعها الاحتكام لانتخابات رئاسية بضمانات ديمقراطية مبكرة أو عادية في سوريا، فسلحت المقاتلين لمواجهة الجيش لإشعال حرب أهلية ومذهبية، ليس فقط لإسقاط النظام، وإنما لتدمير سوريا لصالح إسرائيل!

 

الأكثر مشاركة