إن التكوين البشري معقد، فالكيان البشري عبارة عن خليط بين العاطفة والأعصاب والعقل، لذا فإن هذا التعقيد ينعكس على كافة الوظائف الإنسانية والقرارات التي يتخذها الإنسان. وتشير الدراسات النفسية إلى أن العاطفة ركن أساسي في القرارات التي يتخذها الإنسان ومواقفه تجاه الآخر، ويشير فيثاغورث إلى أن "قوة العقل تكمن في الرصانة، لأنها تُبقي عقلك بعيدا عن تشويش العاطفة".
وفي علاقة القانون بالجريمة وتأثير العاطفة عليهما وعلى القاضي، فإن أول ما يتبادر على لساني أن أقول "رفقا بالقضاة"، وذلك على غرار قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم "رفقا بالقوارير". وأعني بذلك أن نتفهم الدور الصعب الذي يقوم به القاضي عندما يتعامل مع قضية مليئة بالعواطف، وأن يجرد عواطفه الإنسانية ويحيدها حتى لا تسيطر على قراره عندما يكتب الحكم.
إن الجريمة قرار اتخذه الجاني بارتكاب جريمته، وهنا تكمن العلاقة الوثيقة بينهما، وقد أكد على ذلك غاندي بقوله "لا يمكن تصنيع العاطفة أو تنظيمها حسب القانون". والمشرعون عندما وضعوا القانون لم يضعوا نصوصا تنظم العواطف وتطبقها على الوقائع، فالقانون مجموعة من القواعد العامة المجردة، التي وضع لها المشرع الجزاء على من يخالفها.
يقول أرسطو: "القانون منطق خال من العاطفة"، ولتوضيح ذلك فإنه من القصص التي تروى، أن ضابطا فرنسيا أبلى بلاء حسنا وبطوليا في واحدة من أشرس المعارك التي خاضها نابليون بونابرت، حتى أن هذا الضابط أنقذ جميع أفراد كتيبته من خطر الإبادة والوقوع في الأسر. وصل الخبر إلى الإمبراطور فاستدعى الضابط لتهنئته، وما أن وصل حتى اقترب منه وعانقه ثم علق على صدره وساما حربيا ورقاه.
عاد الضابط إلى قاعدته في الجبهة مسرورا، أضاء شمعة وجلس يخط رسالة إلى أمه يروي لها ما جرى لتشاركه هذه الغبطة، وقبل أن يختتمها فوجئ بوقع أقدام وجلبة في الخارج، فالتفت ناحية المدخل فإذا به يرى الإمبراطور بنفسه يدخل إلى خيمته مع شلة من الجنود، وبعصبية سأل الضابط: لماذا تضيء الشمعة؟
ألا تعرف أن ذلك ممنوع ومخالف للقانون, باعتبار أنها إشارة للعدو يستغلها للفتك بالخصم؟ فأجاب الضابط أنه أراد نقل مشاعر الفرح إلى والدته بعد حصوله على الوسام الرفيع. انتزع نابليون الرسالة من يد الضابط وجلس يكملها كالتالي: "سيدتي أهنئك على إنجابك هذا البطل الذي أبلى بلاءً حسناً في الجبهة، لقد رفع شرف فرنسا وكان قدوة صالحة لباقي رفاقه، لكن في الوقت نفسه يؤسفني أن أبلغك أنني أعطيت أوامري لتنفيذ حكم الإعدام غداً في ابنك لأنه خالف القانون بإضاءة شمعة..
وكاد بعمله هذا أن يعرض سلامة الفيلق بكامله للخطر، وبكل محبة آمل أن تتفهمي ذلك". إن سلامة الوطن واحترام القانون، أهم من سلامة وحياة الأبطال. وقد نحكم على الإمبراطور بقسوة القلب والظلم وانعدام الإنسانية، ولكن لو تركنا العاطفة جانبا لوجدنا أن تصرفه صائب ومنطقي رغم قسوته. والقاضي عندما يصدر حكمه يجرد عاطفته، بل يقتلع قلبه ويضعه خارج قاعة المحاكمة حتى لا تؤثر عاطفته على الحكم الذي يصدره.
هل عرفتم الآن حجم المعاناة التي يعانيها القضاة؟ لذا يقال إن من وُلي القضاء فقد ذبح بغير سكين. وتحضرني قصة في هذا المقام وقعت في إنجلترا، فقد حوكمت كيتي بيرون عام 1902 بتهمة القتل العمد، ولم يقلل من هول الجريمة أن حبيبها ريجينالد بيكر كان فظا في معاملته معها، لذلك كانت العقوبة التي تستحقها هي الشنق، فقد طعنت ريجينالد في ضوء النهار على أدراج مكتب البريد، طعنتين الأولى في ظهره والثانية في صدره، وانهارت فوق جثته باكية تصرخ بلوعة وأسى..
حدث هذا على مرأى من الناس، ومع ذلك فإن الجميع تعاطف مع القاتلة، بمن فيهم المحلفون الذين أعلنوا في التحقيقات الأولى أن القتل حدث خطأ، رغم أن كل الأدلة أظهرت العكس، مما أدهش هيئة المحكمة واضطر القاضي لأن يسألهم: هل تعنون أن القتل لم يكن عمدا؟ ف
أصر رئيس المحلفين قائلا: نعم إنها قتلته في ثورة غضب مفاجئة، ولا نعتقد أنها ذهبت إليه وقد نوت ذلك. انهارت كيتي عندما كان الخبير الشرعي يحدد للمحكمة الأماكن التي طعن فيها بيكر مشيرا إلى جسده، ولم يستدع ممثلو الدفاع أي شاهد..
وكان على رأسهم هنري ديكنز ابن الكاتب الشهير تشارلز ديكنز، الذي ورث عن أبيه قدرته على تحريك العواطف، وحاول أن يقنع المحلفين بأنها أرادت الانتحار وليس ارتكاب جريمة القتل، ولكنه فشل لأن فكرته تعارضت مع الأدلة، إلا أنه نجح في توجيه الأنظار والأفئدة إلى معاناة الفتاة وتعاستها.
وحاول القاضي إخفاء العواطف عندما لخص القضية قائلا: أيها السادة المحلفون، لو أنني اتبعت عواطفي لأوقفت هذه القضية منذ البداية، ولكن اعتبار الموضوع قتلا دون عمد، غير وارد إطلاقا. وصدر الحكم بعد مداولة لم تدم أكثر من عشر دقائق، وحكم على كيتي بالقتل العمد، لكن المحلفين أوصوا بالرأفة بها.
ورغم أن القاضي حكم عليها شنقا حتى الموت، إلا أن الحكم لم ينفذ ولم تشنق كيتي، لأن الشعب تعاطف معها وتدفقت الالتماسات للعفو عنها، ففي نهار واحد تجمع أكثر من 15 ألف توقيع، واستجابت وزارة الداخلية فغيرت الحكم إلى السجن مدى الحياة، خفف فيما بعد عام 1907 وأفرج عنها بعد سنة.
إن القانون لم يفرق بين جرائم العاطفة والجرائم العادية، فلا نستطيع أن نقول إن من قتل من واقع الحب يجب أن نخفف عنه العقوبة، لأن الأحكام عنوان الحقيقة. ولكن القاضي ينظر في الظروف المحيطة بالقضية، ويطبق القواعد المنظمة للظروف المخففة والمشددة عندما يضع العقوبة، والقانون هو الذي ينظم ذلك ويعطي القاضي السلطة التقديرية في تحديد العقوبة.
إن القانون في دولة الإمارات لم يبح القتل لأسباب عاطفية، كما أنه لم ينص على العاطفة كظرف مخفف، لكنه في النهاية يخضع لتقدير القاضي، فهو في النهاية له فصل الخطاب. إن الجريمة العاطفية لا تستقر إلا على كرسي من ثلاث قوائم، وهي الزوج والزوجة، وأما القائم الثالث فإنه يرتكز على الباعث. ولتفسير الحالة النفسية لارتكاب الجريمة العاطفية، فإنها تتولد من رغبة العاشق في رد الاعتبار لنفسه بعد نفور معشوقه منه، وبدافع الرغبة في الانتقام ورد الاعتبار إلى الذات.
وأختم كلامي بأن التعامل في العلاقات الإنسانية وقيام العدالة الاجتماعية، يتم بالقانون الذي يعتمد على العقل، وبالأخلاق التي تعتمد على العاطفة، فإذا كان القانون يمثل روح هذه العلاقات، فإن الأخلاق تمثل حرارتها.