رأى جان لوك أن الدولة هي تعاقد بين فئات المجتمع يتم برضاها، وتوضحت هذه النظرية لدى جان جاك روسو، الذي قال بضرورة توافق المجتمع على ما سماه "العقد الاجتماعي" كأساس لبنية الدولة ووظائفها وأهدافها، وضمنه مفاهيم سياسية وأخلاقية واجتماعية عدة، مثل المواطنة والدستور، والمساواة، وحقوق المواطن، والحرية والديمقراطية والقانون وغيرها، وما زال العقد الاجتماعي يعتبر في الدول الديمقراطية، فوق الدستور وله الأولوية واقعياً وأخلاقياً.

اتفق فلاسفة النهضة على أن الدولة هي دولة مدنية، وسلطة بشرية ديمقراطية، تتيح للعقول والعقلانية وللناس جميعاً المناخ الملائم للعمل، وتعتبر العقل والقانون أساس الممارسة الديمقراطية، ومفتاح الحقيقة والثورة العلمية، كما تعتبر الدولة الحديثة دولة المؤسسات والقانون الذي سيكون سيد الجميع، وتكفل سائر حقوق الفرد، لأنها دولة المواطنة، التي ترتكز على إرادة مواطنين أحرار، ترعى الدولة حقوقهم وتكفل حرياتهم.

تأثر النهضويون العرب بمفاهيم الدولة الحديثة هذه، ولكن تأثرهم بقي جزئياً، حيث اهتم كل منهم بجانب من معاييرها دون آخر، ولم يتبن أحد من النهضويين مفاهيم الدولة الحديثة أو معاييرها أو مكوناتها بكاملها، لكنهم جميعاً رفضوا الاستبداد وأدانوه، إلا أنهم لم يطرحوا بدائل له، لا الديمقراطية ولا غيرها، وحتى الشورى لم يعمقوا مفهومها ويطوروه ويحدثوه، ليصبح مكافئاً للديمقراطية أو بديلاً عنها.

لكنهم أجمعوا على مدنية الدولة وإبعاد الدين عن السياسة، ولخص الشيخ علي عبد الرازق بموضوعية وروية، آراءهم فقال: إنه لا وجود لما يسمونه المبادئ السياسية الإسلامية ونظام الحكومة النبوية، إذ لم تكن في الإسلام لا موازنة ولا إدارة نظام، ولم يرسل محمد (ص) ليمارس أي سلطة سياسية، ولم يمارسها في الواقع.

والحقيقة أن نهضويين عديدين قبل الشيخ علي عبد الرازق، مثل الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده والشيخ قاسم أمين، وغيرهم من الفلاسفة الإسلاميين التقاة المتنورين، مالوا للدعوة إلى مدنية الدولة. تغير موقف الإسلاميين بعد تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، سواء ما يتعلق منه بفكرة الدولة أم بماهيتها أم وظيفتها.

فرغم أنهم قالوا في المراحل الأولى بإبعاد الدين عن السياسة، رأوا بعدها أن الدولة تضم أوطاناً وقوميات وأمماً عديدة، تجمعهم الخلافة (التي كان يطمح إليها الملك فؤاد)، فاعتبرها حسن البنا رمزاً للوحدة الإسلامية، ثم بالغ واعتبرها شعيرة إسلامية والخليفة "ظل الله في الأرض" و"الإسلام دين ودنيا".

وكانت آراؤه هذه غير منسجمة مع أفكاره وطروحاته التي كانت عند تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان يعتبر السياسة شيئاً والدين شيئاً آخر، وهو الذي قال: "قلما تجد إنساناً يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سميت هذه الجمعية إسلامية لا سياسية..". إن وظيفة الدولة لدى الإسلاميين هي إقامة الدين.. وهذه هي الغاية التي تهدف إليها الحكومة الإسلامية.

"ولا تحدد مصالح الناس في الدولة الإسلامية، لا رغبة بعض القوى السياسية في الدولة، ولا أهواء جماهير الناخبين أو آراءهم، وإنما هي سابقة على وجود الجماعة أو الدولة الإسلامية ذاتها، ولازمة لها بحيث تفقد هذه الدولة مبرر وجودها إذا تخلت عن غايتها أو تنكرت لها". لقد بقيت علاقة الدين بالسياسة..

والدين بالدولة، تقف على رأس المشكلات التي تواجهها المجتمعات العربية والإسلامية، وقد وصف أصحاب الخطاب الإسلامي الحديث الدولة الإسلامية بالصفات الأخلاقية والفضائل والمثاليات، وبالغوا في شرح هذه الفضائل، سواء بالاستشهاد بما سموه الدولة الإسلامية أيام الرسول والخلفاء الراشدين، أم بتخيل مواصفات الدولة الإسلامية المحتملة التي يتصورونها. وفي جميع الحالات لم تخطر لهم العودة لمناقشة التساؤلات البديهية، وهي: ما هي أسس الدولة الإسلامية التي يتحدثون عنها؟

هل مرجعيتها دينية صرفة؟ وهل هي إعادة صياغة للشريعة على شكل قوانين؟ وهل كانت الظروف مماثلة لحاضرنا لتنطبق اجتهادات الماضي على الحاضر؟.. وعشرات الأسئلة الأخرى التي يفتح كل منها الباب على عشرات الأسئلة المماثلة.

إن تصور الإسلاميين للدولة يعود للفكرة المتداولة عن الدولة قبل حركة النهضة العربية، وهذه الصورة على نقيض مع فكرة الدولة، مع فلسفتها ووظائفها وهياكلها. فالدولة بمعناها الحديث لم تكن موجودة، وإنما كانت سلطة فقط وسوطاً تسوس به الناس. ومع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قرروا أن الدولة هي دولة الوحدة الإسلامية الجامعة، التي لها معاييرها ومفاهيمها المختلفة واقعياً وكلياً، عن معايير الدولة الحديثة...

فلا الوطن ولا القومية ولا اللغة ولا الأرض المشتركة، تشكل عناصر تكوين هذه الدولة أو مقوماتها، إنما هي دولة العقيدة وكفى، مهما تباعدت أوطان المسلمين واختلفت قومياتهم ولغاتهم وحتى مصالحهم. وهكذا فإن ما تم تحديثه من الدولة هو شكلها الخارجي، وبعض هيكليتها، والأساليب التنفيذية للحكم، وبقيت المعايير القديمة للدولة هي السائدة، ولم تؤخذ المعايير الحديثة بشكل منهجي وجدي، كما لم تهتم دولتهم بدور الديمقراطية في وحدتها وقوتها.