هل تلقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر لطمة هائلة من الإدارة الأميركية؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فقد راهنت الجماعة طويلاً وكثيراً على قدرتها غير العادية في إفساد العلاقة المصرية الأميركية، وقد تردد أن الرئيس المعزول محمد مرسي قد صاح في الساعات الأولى للقبض عليه قائلاً: «إن أميركا لن تترككم»، ما يعني ثقة الجماعة المطلقة في أن واشنطن ستتدخل إن آجلاً أو عاجلاً، لإعادتهم إلى موقع الحكم.
لكن حديث طائرات الأباتشي الأميركية العشر التي قررت واشنطن رفع الحظر عنها وتسليمها لمصر، دلل على أن الرهان الإخواني كان خاطئاً، وأن الجماعة لا دالة لها على القراءة المعمقة للعقلية السياسية الأميركية، ولا تجيد قراءة سطور التاريخ الحديث لعلاقة واشنطن بالعديد من العوالم والعواصم، وتخليها عن أقرب أصدقائها في أحلك اللحظات، وقد فاتهم أن الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزارة خارجيته، تركوا حليفاً استراتيجياً بوزن الرئيس المصري حسني مبارك وحيداً في مهب رياح «ميدان التحرير».
فات جماعة «الإخوان» في مصر معرفة شيء عن البراغماتية السياسية الأميركية التي بلورها ويليام جيمس، والتي تسيطر على العقلية الأميركية، وتمثل رد فعل على الفلسفة المثالية الأخلاقية الكانطية، ويمكن اختصارها بالعبارة الشهيرة: «الأفكار ليست صحيحة أو خاطئة، بل هي مفيدة أو غير مفيدة، عملية أو غير عملية»، وبالتالي التحالفات السياسية... هل يخدم هذا التحالف أو ذاك الارتباط، المصلحة الاستراتيجية الأميركية أم لا؟
بعد حظر لم يدم سوى بضعة شهور، كانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تعلن عن تسليم مصر عشر طائرات مروحية من نوع الأباتشي إلى مصر، إضافة إلى طائرة كانت هناك من أجل أعمال الصيانة.
ما الذي جعل الأميركيين يمضون في هذا الاتجاه التصالحي مع مصر؟
في الاتصال الهاتفي الذي جرى بين وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل، ونظيره المصري الفريق صدقي صبحي، يجد المرء الجواب، فقد قال هاغل: «إن الطائرات المروحية ستدعم عمليات مصر لمكافحة الإرهاب في شبه جزيرة سيناء».
أما المتحدث الرسمي باسم البنتاغون الأميرال جون كيربي، فقد كان أكثر توضيحاً وتفسيراً، إذ أشار إلى أن هذه الطائرات ستساعد الحكومة المصرية في التصدي للمتطرفين، الذين يهددون الأمن الأميركي والمصري والإسرائيلي.
هل اكتشفت واشنطن فجأة أنها مهددة، وأن إسرائيل كذلك؟
من جديد، نذكر بما قاله وزير خارجية ألمانيا الأسبق يوشكا فيشر، من أن الولايات المتحدة خاضعة لدافع قسري مهلك، يحملها على تكرار نفس أخطاء الماضي، على الرغم من دروس الماضي الرهيبة.
لم تتعلم واشنطن من تجربتها في أفغانستان التي أنتجت لها الأفغان العرب، وقد دفعت الثمن غالياً في سبتمبر 2001، وها هي قد أحيت تنظيم القاعدة من جديد، عبر تشجيعها للفوضى العربية، فظهرت جماعات من الخطورة المطلقة مثل «داعش» وأخواتها، من مقطِّعي الرؤوس.
هل رأت واشنطن الآن نتائج صناعة أيديها في سيناء، البوابة الشرقية لمصر؟ ربما تهمها مصر بالفعل لأسباب جوهرية، مثل قناة السويس، ودورها في التعاون مع الأميركيين أنفسهم في مطاردة الإرهاب في العقدين الماضيين، عطفاً على وحدة العقيدة القتالية بين البلدين.
غير أن ما باتت واشنطن تخشاه ولا شك، هو تعرض أمن إسرائيل كذلك، بالدرجة الأولى، لخطر وتهديد مصالح أميركا نفسها في البحر المتوسط والبحر الأحمر، من جراء ما يجري في دول تفككت وأضحت نهباً للميليشيات القاعدية، كما الحال في ليبيا.
وباختصار، المشهد بدا وكأن واشنطن قد راجعت أوراقها في عجالة وحسمت أمرها، وفي طريقها لإغلاق صفحة «الإخوان»، وقد قررت ألا تخسر عموم الشعب المصري، لا سيما عندما رأت جدية الشعب المصري منذ ثورة 30 يونيو التصحيحية، ثم خطواته الواثقة الجديدة أيضاً لتنفيذ كافة استحقاقات خارطة المستقبل، وفي مقدمتها الدستور، وعما قليل الانتخابات الرئاسية.
هل من تصريحات يلحظ منها المرء تغيراً واضحاً في خطوط السياسة الأميركية تجاه الجماعة الإخوانية؟
خذ إليك ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري منذ بضعة أيام، خلال مؤتمر اقتصادي جرت وقائعه في واشنطن، إذ سحب البساط بالمرة من تحت أقدام الإخوان، وأفقدهم ورقة التوت التي حاولوا إظهار وطنيتهم من خلالها، إذ أشار إلى أن «الشباب المصري وليس جماعة الإخوان، هم الذين وقفوا وراء التظاهرات التي شهدها ميدان التحرير عام 2011»، مضيفاً أنه «لم يكن الدين أو الإخوان أو السلفيون وراء تلك الأحداث، بل الشباب الذي تواصل مع بعضه البعض من خلال وسائل الاتصال الحديثة، هم من أقنع الملايين بالخروج إلى الشوارع للتظاهر ضد الفساد، ولخلق مستقبل أفضل».
ما يجري لجماعة الإخوان المسلمين من قبل إدارة أوباما، يحتم عليها قراءة الواقع السياسي بعين فاحصة، وإدراك أن الغطاء الأميركي يعري صاحبه ويعرضه لقسوة البرد وقت العاصفة.. فهل تدفعها قرارات أوباما وتصريحات كيري للعودة إلى الصف الوطني في لحظات مصيرية، أم أنها مصممة على الانتحار الذاتي؟
أبداً ودوماً، تستخدم أميركا الدين والجماعات الدينية كأداة من أدوات البراغماتية السياسية، مع أنها لا تفكر أبداً بشكل ديني، وتوظيف الغرب للإسلام السياسي سلاح ذو حدين.. فهل أدركت واشنطن من جديد أنه سلاح مميت وقاتل لها، وأنه حان وقت التخلي عن جماعاته ووقف دعمها، أم أن خطيئة واشنطن الكبرى هي الكبرياء الممزوجة بالنسيان؟