«الربيع الغربي» استراتيجية أطلسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مواقف غربية «انقلابية» عدة على المبادئ الغربية ذاتها، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى، وتستخدم أسلوباً عقيماً هو «العقوبات» لفرض إملاءاتها على الخصوم، بينما هي في النهاية تعاقب ذاتها بسياساتها التكتيكية قصيرة النظر!

هذه المواقف السياسية المثيرة للاستغراب والاستهجان، تجري ضد منطقتنا العربية، مثلما تجري بالأساليب قصيرة النظر نفسها لتحقيق الأهداف بعيدة المدى نفسها من حولنا في العالم، بما يعكس أزمة واضحة في المصداقية والثقة، خاصة في السياسة الأميركية التي تشكل قيادة الحلف الأطلسي.

أكثر هذه المواقف في منطقتنا مدعاة للغرابة وللسخرية، هو الموقف الصهيو أميركي المشترك، الذي يهدد بفرض العقوبات ووقف المساعدات للسلطة الوطنية الفلسطينية، عقاباً لها على اتفاق المصالحة الفلسطينية لإنهاء الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعادة الوحدة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير، بعدما واجه نهج المفاوضات الذي تبنته السلطة طريقاً مسدوداً بسبب تعنت إسرائيل وعجز أميركا، وبعدما واجه نهج المقاومة طريقاً مسدوداً، لأسباب كثيرة، بما يكشف أن تل أبيب وواشنطن هما اللتان صنعتا الانقسام الفلسطيني.

وأسوأ التصريحات هو تلك التصريحات السياسية الأميركية المنفصلة عن الواقع، بحيث لا ترى إلا بعين المصالح ولا تقرأ إلا ما تريد بنظارة الأتباع فقط، حتى وإن خالف الحقائق وتجافى مع الوقائع، توازياً مع الحملات الإعلامية الغربية مدفوعة الثمن المتصلة بالشأن المصري..

والتي تعتمد أسلوب الصورة المقلوبة والتضليل المتعمد، وتصل أحياناً إلى حد الهستيريا، حتى لو دعمت الإرهاب بعمد أو بغباء، وتهجمت على القضاء المصري بجهل أو بتجاهل، بهدف حماية العملاء وعرقلة المسار الديمقراطي لخارطة المستقبل، في استفزاز وابتزاز واضح للإرادة والإدارة الوطنية المصرية..

وآخر هذه المواقف من حولنا، التي تؤثر تداعياتها علينا مثلما تتأثر بنا، هو الموقف الأميركي المندفع بغير حساب للعواقب، بـ«العقوبات» الجوفاء ضد موسكو والحماية المباشرة للانقلابيين في كييف، إلى حافة خطر كبير يهدد أوكرانيا بمزيد من الانقسام، أو بالحرب الأهلية في حال التصدي العسكري الأوكراني، أو إلى مواجهة ساخنة بين روسيا وأميركا على خلفية الأزمة الأوكرانية المتفجرة، بما يهدد الأمن والسلم الدوليين، ويسبب الأضرار للمصالح الأوروبية، ويعيد أجواء الحرب الباردة!

إن افتعال الأزمة الأوكرانية من جانب الاتحاد الأوروبي بمشروع «الشراكة»، جاء بدفع أميركي لضم أوكرانيا للحلف الأطلسي، بعد سعيه لضم إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بما يشكل تهديداً أطلسياً على الحدود الروسية لا يمكن لروسيا أن تقبله.

وزاد الطين بلة الدعم الأطلسي للانقلاب على السلطة الشرعية في «كييف»، بما أشعل غضب القوميات والأقاليم في أوكرانيا جنوباً وشرقاً، وأدى إلى استقلال إقليم القرم بعد استفتاء شعبي وانضمامه إلى الاتحاد الروسي، وتزايد التهديد بحرب أهلية ومواجهة عالمية!

التصريحات والمواقف والسياسات الأميركية والغربية الأطلسية، من القضايا الساخنة العالمية أو الإقليمية، خاصة في الجنوب العربي للبحر الأبيض مثل فلسطين وسوريا ومصر، وفي الشرق الأوروبي للبحر الأسود، خاصة في أوكرانيا ومن قبلها جورجيا ودول البلطيق الثلاث، أظهرت بعدين كاشفين لكل ذي عينين..

الأول، التطابق الكامل بين هذه المواقف والسياسات، وبين الاستراتيجية الجديدة للحلف الأطلسي التي تقررت في منتصف التسعينات وفي قمة إسطنبول، في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي وغياب «حلف وارسو»، والهادفة إلى التوسع جنوباً في اتجاه الدول العربية، لتحويل المتوسط إلى بحيرة أطلسية ومحاصرة مصر، والتمدد شرقاً نحو الدول الأوروبية السوفييتية السابقة، لتحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية ومحاصرة روسيا.

وليس خافياً على أحد أن هذا التمدد الاستراتيجي للحلف الأطلسي، بهذا التوجه نحو المنطقة العربية المتوسطية والخليجية أيضاً، إنما ينطلق من أجندة استراتيجية غربية عالمية، تتعدى حدود هذه المنطقة الشرق أوسطية، إلى شرق أوروبا ووسط آسيا لتطويق الصين..

وهذا التمدد يجيء في أعقاب متغيرات ومستجدات عالمية عدة، أهمها غياب الاتحاد السوفييتي، مما فتح شهية الناتو للتوسع شرقاً وجنوباً، وتغيير استراتيجيته ليقوم بدور سياسي بعد أن كان عسكرياً فقط، وفى خارج أراضيه بعد أن كان قاصراً على أراضي دوله فقط، وبشن عمليات استباقية (هجومية) بعد أن كان دوره دفاعياً فقط!

والبعد الثاني، هو أنه كشف أيضاً عن ارتباك واضح وتخبط كاشف، وازدواج للمعايير في السياسات الخارجية للدول الغربية، بل عن «انقلاب فاضح» على كل ما تتشدق به من شعارات وقيم وقوانين لا تمارس إلا عكسها، في تناقض بين الأقوال والأفعال وبين الشعارات والسياسات..

وفي مقدمتها مبادئ الشرعية التي لا تفعل في مصر وفي أوكرانيا إلا الانقلاب عليها، والديمقراطية وحقوق الإنسان التي هي آخر من يحق له التحدث عنها، ومحاربة الإرهاب التي انقلبت إلى دعم للإرهاب أو توظيف له لابتزاز العالم!

في النهاية.. يبدو الآن واضحاً أن سياسات واشنطن والحلف الأطلسي، التي خططت مخابراتها لإشعال ما سمي بـ«الثورات الملونة» في الفضاء السوفييتي للتمدد شرقاً، هي السياسات نفسها التي خططت لإشعال «الربيع الغربي» في الوطن العربي للتمدد جنوباً.. بما يوجب على شعوبنا كل الانتباه، حتى لا يعود المستعمرون الجدد من الشبابيك، بعدما ناضلت شعوبنا لطرد المستعمرين القدامى من الأبواب!

 

Email