لا يوجد في المجتمع السياسي الحديث والدولة الحديثة، إلا أكثرية سياسية واحدة، تتنافس معها أقلية أو أقليات أخرى سياسية بدورها، وما عدا هاتين المجموعتين السياسيتين ليس من الحكمة تدخل أي إثنية دينية أو مذهبية أو عرقية في شؤون الحكم والسياسة منفردة ومن موقع طائفي، فقضية الأكثرية والأقلية هي في الأصل قضية سياسية بامتياز.
وقد تضم الأكثرية أو الأقلية عدة أطراف، أو تتشكل من تحالف عدة تيارات، وفي الحالات جميعها فإن أفراد الأقلية والأكثرية هم من المواطنين الذين تظللهم مرجعية مواطنة واحدة، مهما اختلفت انتماءاتهم المذهبية والقومية أو الدينية.
كما أن الأقلية السياسية والأكثرية السياسية، لا علاقة لها لا بالمذهبية ولا بالقومية ولا بالمنطقة الجغرافية، ولا بأي انتماء آخر غير الانتماء الوطني. لأن أفراد الأكثرية والأقلية يتمتعون بحقوق المواطنة، وعلى رأسها المساواة والمشاركة، وكل منهم يسهم في تقرير مصير المجتمع ومستقبله. أما ما نراه وما نسمعه في هذه الأيام حول الأكثرية والأقلية، التي تعني أكثرية أو أقلية دينية أو مذهبية أو قومية أو غيرها تتدخل منفردة في الشأن السياسي، فإنما هو نهج طائفي صريح، وقد تؤدي تناقضات هذه الأقليات إلى صراعات، وصولاً إلى مذابح طائفية تدمر المجتمع تدميراً كاملاً.
نلاحظ في السنوات الأخيرة، أن المفاهيم السياسية العربية والمفاهيم الثقافية أيضاً، أعطت مضامين جديدة للأقلية والأكثرية في جانبين رئيسيين: أولهما، الاعتقاد بأن الطائفية تعني المذهبية، وواقع الحال أنها ليست كذلك، وإنما تعني تعصب الأقلية، سواء كانت مذهبية أم غير مذهبية، لمصالحها الذاتية، وعدم اهتمامها بمصالح الآخرين.
وثانيهما، تنامي الصراعات الطائفية بين الأديان والمذاهب، وغياب تشكل الأكثرية والأقلية السياسيتين اللتين تجعلان من المجتمع مجتمعاً صحياً، ولذلك تشوه المجتمع في بعض البلدان العربية، وصار كل مواطن عربي يفتش عن دينه ومذهبه وإقليمه الجغرافي، ليجد انتماء جديداً على حساب انتمائه الوطني. وهذا التطور الشاذ والمنحرف، يعود لضعف الدولة وتراجع دورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتخليها عن بعض صلاحياتها لبعض الطوائف.
ذلك أن الدولة العربية الحالية تراجعت وضعفت لحساب قوة وتقدم السلطة والحكومة، التي تحولت إلى سلطة وحكومة تديرهما أقلية حاكمة وأجهزة أمنية تعمل لبقاء هيمنتها لزمن غير محدد، وترفض تداول السلطة، وقد تتساهل السلطة والحكومة مع الخلافات الطائفية، لأن تجزئة المجتمع إلى أقليات غير سياسية متصارعة هي غالباً، وعلى المدى القصير، لصالح السلطة الحاكمة التي لا تتمتع بشعبية.
إن السياسة الطائفية المعمول بها في بعض البلدان العربية، أدت إلى هشاشة المجتمع، وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وتشويه مفهوم المواطنة، وزيادة إضعاف الدولة. وبسبب اقتصار الطائفية على المذهبية فقط، تحول الصراع إلى صراع مذاهب، وبالتالي، تم حشر الدين في السياسة، بل حشر المذاهب فيها، وتكليف رجال الدين بالاجتهاد السياسي، الذي نادراً ما يتقنونه.
ومن المعروف أن الدين لم يتوحد مع الدولة في التاريخ العربي الإسلامي، إلا أيام الخلفاء الراشدين، ونظراً لتغير الظروف، فمن المتعذر الآن القبول باجتهادات الفقهاء في المجالات السياسية، حيث أخذ بعضهم يبرر لنفسه التدخل في شؤون الدولة، وليّ عنق الفقه والتاريخ، وصولاً إلى تبريرات غير موضوعية، ولا تستوعب الظروف القائمة.
لقد شهدت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حروباً طائفية وصراعات أدت إلى كوارث حقيقية، حيث شهدت المجتمعات الأوروبية صراعات دامية بين المذاهب المسيحية المختلفة، راح ضحيتها مئات الآلاف من مواطنيها، وكانت الكنيسة تغذي هذه الصراعات لتبقي على امتيازاتها، وخاصة حقوقها في الإشراف السياسي على الدول، وجمع الضرائب، والهيمنة على حياة الناس. ولعل هذا هو الذي جعل اصطلاح الطائفية يُطلق على الصراعات الإثنية فقط، ثم انتهت هذه الحروب بعقد اتفاقية بين الدول الأوروبية منتصف القرن السابع عشر، أقرت الاعتراف المتبادل بجميع المذاهب، وسيادة مرجعية المواطنة ومفهومها على المجتمع كله، ونبذ الطائفية.
وبدأ منذ ذلك الوقت، نهوض الدولة الحديثة بمفاهيمها الحديثة، كما انطلقت النهضة الأوروبية الحقيقية الممثلة بالثورة الصناعية، وتحديث الدولة، وإقرار العقد الاجتماعي. وبالتالي، فبقدر ما خسرت أوروبا من ضحايا بشرية وتدمير اقتصادي واجتماعي بسبب الطائفية، بقدر ما ربحت من الحداثة، وانطلق التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وانطفأت جذوة الصراعات المذهبية (والطائفية) في أوروبا، وأصبحت المواطنة هي المرجعية، وتحولت الأكثرية والأقلية إلى أكثرية سياسية وأقلية سياسية، ولا شيء غير ذلك.
الخشية أن تتحول الصراعات الطائفية في البلدان العربية إلى حروب طوائف بشكل صريح، وألا يأخذ العرب العبر من الصراعات، كما أخذتها شعوب أوروبا، فيخسرون مجتمعاتهم ودولهم، كما خسروا الأندلس بعد حروب الطوائف الأندلسية، ويكتفون بالبكاء، كما بكى أبو عبد الله الصغير ملكه المضاع، على أحد تلال غرناطة عندما غادرها.