لعل من أسوأ الصفات التي تطلق على نظام سياسي، صفتي الفساد والاستبداد. وقد كانت هاتان الصفتان تاريخياً هما المانعان الرئيسان لتحويل السلطة القمعية إلى دولة ذات مضمون اجتماعي، وخاصة خلال القرنين الأخيرين، حيث تشكلت الدول الحديثة وأخذت هيكليتها النهائية.
ولسوء حظ الشعوب النامية، لم تنعم بتأسيس دول حديثة بل أقامت بدلاً منها سلطة «حديثة»، مسلحة بأشد أنواع الأسلحة فتكاً، وبأكثر القوانين قسوة وشدة، وتركت لغرائزها حرية إشباع رغباتها من المال والسلطة والقمع وانتهاك القانون.
يعني الفساد أول ما يعني الاستهانة بالعدالة، وبتكافؤ الفرص بين المواطنين والتوزيع العادل للثروة، وبانتهاك القوانين والأنظمة المعمول بها، وعدم احترام التقاليد والقيم الوطنية والمحلية، والالتفاف على القطاع العام مالياً، وعلى الأخلاق العامة اجتماعياً وثقافياً..
فتخف في نظر الناس أهوال الكذب والسرقة والتدليس والغنى غير المشروع، ويُبرر الإجرام والتجاوز والاعتداء على مقدرات الآخر وقيمه، ويدفع الفقراء وأبناء الشعب ثمناً باهظاً، ويتحولون إلى مغلوبين على أمرهم لا يلوون على شيء، مما يحط من كرامتهم، ويجبرهم على الميل إلى الذل والخنوع للسلطة.
أما الاستبداد فيعني أن السلطة تنفرد بصلاحيات الدولة ومهماتها، وتعطي لنفسها الحق بالسطو على مؤسسات الدولة (العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، وإلحاقها بها إلحاقاً كاملاً، وكأن هذه المؤسسات ملكية خاصة بالسلطة وليست للناس جميعاً، فضلاً عن عدم احترامها للقانون، وعدم تطبيقه، وخاصة في ما يتعلق بقمع الناس واعتقالهم دون تهمة أو دون التحقيق معهم.
ورفض أي ملاحظة أو نقد أو إشارة سلبية لتصرفاتها، وكأن قراراتها قوانين منزلة لا تقبل الاحتجاج أو الرفض أو حتى التأويل! ولتنفيذ هذه السياسة وهذا المنطق، تشكل السلطة أجهزة أمن توكل إليها التنفيذ، وشيئاً فشيئاً يعطي المسؤول الأمني، في غياب المراقبة والمحاسبة، لنفسه الحق في الاجتهاد في كيفية التصرف.
ويضع بدائل للقانون نفسه ولتطبيقه، كما يعطي حرية العمل لغرائزه البدائية التواقة لجني المال والتحكم في الناس، حتى يصبح مسؤولو هذه الأجهزة شركاء في السلطة إن لم يصبحوا السلطة نفسها.
ولأن السلطة سلطة وليست دولة، فإنها رغم مركزيتها وقسوتها، تجد نفسها ضعيفة أمام الناس بسبب ارتكاباتها، وتضطر للجوء إلى أجهزة الأمن لمواجهة معارضة الناس لسياستها، فيزيد صلف هذه الأجهزة وارتكاباتها واستبدادها، وتجد أجهزة الأمن مصالحها في السكوت عن هذا التجاوز مقابل «المعلوم»، والتحالف مع فئة من الأغنياء الجدد الذين جمعوا أموالهم بطرق غير مشروعة.
وفي الخلاصة، يطلقون العنان للفساد، وتشاركهم السلطة ذلك، وهكذا يؤدي الاستبداد إلى الفساد، ويتحالف بذلك الفساد والاستبداد والقمع ومخالفة القانون واختراق القيم. وعندما تتراجع الممارسة الديمقراطية وأعمال الرقابة، يزداد بالضرورة الفساد والاستبداد، ولذلك نجد الظاهرتين ناميتين في البلدان العربية ذات الأنظمة الشمولية، وقد كشفت ذلك بوضوح انتفاضات الربيع العربي، وبانت فضائح في بعض الأنظمة العربية يندى لها الجبين.
فمن منا كان يعتقد أن حجم المال المنهوب في تونس، الجمهورية قليلة الموارد التي تعتمد أساساً على السياحة، يبلغ عشرات المليارات من الدولارات، وتجاوز في ليبيا مئات المليارات (وما زالت البنية التحتية الليبية بدائية وكأنها خارجة للتو من العصور الوسطى)! وبلغ المال المنهوب في مصر أيضاً، من أهل السلطة وحلفائها، مئات مليارات الدولارات، وحتى اليمن (السعيد) الفقير والمحروم، خرجت منه عشرات المليارات، أما الجزائر فقدر أحد رؤساء حكوماتها المال المنهوب بستة وعشرين مليار دولار، وذلك قبل ربع قرن من الآن..
أما العراق، وهو من أغنى بلدان العالم باحتياطي النفط الذي ينتج منه سنوياً ما يعادل مئة مليار دولار، فهو لا يجد في خزينته ما يسد حاجة بلاده من الكهرباء، وأحياناً من الرواتب والأجور! وقدر وزير الاقتصاد السوري الأسبق، أن أموال السوريين في الخارج تجاوزت مئة وثلاثين مليار دولار، في الوقت الذي تقتر فيه السلطة السورية على شعبها في استيراد حاجات لا غنى عنها.
انتشرت ظاهرة الفساد في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية، بلا رحمة ومن دون حدود، فلم تعد تقتصر على الفئات العليا من المجتمع (من المسؤولين أو الأغنياء)، بل طالت ما تبقى من أبناء الطبقة الوسطى، والأهم ما يرافقه من تخل عن الكرامة وعزة النفس، والالتزام الوطني والافتخار بالانتماء للهوية الوطنية والتمسك بالقيم الأخلاقية، حيث انهارت هذه جميعها أمام ضربات الفساد.
حاول بعض السلطات مواجهة الفساد بالأسلوب الذي تفهمه (وتستسهله)، أعني أسلوب القمع، لا أسلوب خلق الشروط الموضوعية لتراجع الفساد وعودته مذموماً مدحوراً كما كان في تقاليدنا الشعبية.
ومن يريد الآن مواجهة الفساد ثم محاربته، لا بد له من ممارسة الديمقراطية في المجتمع، وإطلاق يد وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني (والأهلي أيضاً)، لتراقب أجهزة السلطة وآلية عملها، وتفضح ممارساتها السلبية، وتعزز ثقافة مواجهة الفساد والتربية على رفضه، وفي الوقت نفسه تجفيف منابعه، ليتراجع يوماً وراء يوم، ولتتحول السلطة إلى دولة شيئاً فشيئاً.
وربما كانت هذه الوسيلة هي الوحيدة للقضاء على الفساد، أي بإقامة الدولة الحديثة واحترام معاييرها، وتحويل السلطة إلى دولة، أي إلى سلطة للدولة، وليست دولة للسلطة.