قبل أيام هبطت على تليفزيونات منطقة الشرق الأوسط قناة فضائية تبشيرية، تبث إرسالها من الولايات المتحدة، وتطلب من مشاهديها الرد برسالة من كلمتي: نراكم بوضوح.

هي مجرد قناة في شبكة ضخمة من المحطات التبشيرية البروتستانتية، يتجاوز إنفاقها السنوي 20 مليار دولار، تغلغل من خلالها الدعاة الأصوليون في شرايين المجتمع الأميركي بسرعة ومهارة، وصاروا الآن يبثون أفكارهم خارج الحدود، خاصة في أميركا اللاتينية وإفريقيا.

وبالطبع لا نعترض عليها ولا يحق لنا ذلك في عالم حر مفتوح، ولكنها دلالة قاطعة على صعود تيار الأصولية الدينية صعوداً لم يحدث في التاريخ من قبل، باسم «الصحوة الدينية».

وعموماً، لم يستأثر بهذه الصحوة أصحاب دين من الأديان، بل شملت الأديان السماوية الثلاثة، وانتقلت بالتبعية إلى ديانات وضعية كالبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية، بل نستطيع ببساطة أن نصف الأربعين سنة الأخيرة من تاريخ البشرية بأنها «سنوات الأصولية».

وقد صاحبتها اعتداءات من أصوليين يهود على المصلّين في مساجد في الأرض الفلسطينية المحتلة، وحدث نفس الاعتداء على مساجد في الهند من أصوليين هندوس، واغتيل الرئيس المصري أنور السادات برصاص أصولي مسلم، وقتل أصوليون مسيحيون بعض الأطباء والممرضات في عيادات الإجهاض في الولايات المتحدة ودول أخرى.

والسؤال: ما سبب صحوة الأصولية على هذا النحو؟ هناك تفسير شعبي وآخر معرفي.

الشعبي يرجع المسألة إلى جنون العالم، بما فيه من حروب واضطرابات وصراعات ودماء مسالة، وبدلاً من أن تأخذه الحضارة إلى ضفاف «الراحة»، انغمس في مزيد من القلق والتوترات والضغائن، تعكسها نشرات الأخبار في كل أرجاء المعمورة، حتى أصابت هذه النشرات ملايين البشر بحالات اكتئاب وعصبية، فأدمنوا المهدئات وأشياء أخرى، أو الهروب إلى الأصولية.

أما التفسير المعرفي فقد قدمته عشرات الكتب شرقاً وغرباً، وإن مالت في أغلبها إلى سرد الأصول التاريخية القادمة من القرون الوسطى، أكثر من تحليل الأسباب المعاصرة.

وقد يكون مفهوماً أن حركة الأصولية الإسلامية خرجت للنور في نهاية القرن التاسع عشر، فالمسلمون، والعرب في مقدمتهم، كانوا يعانون من حالة ضعف عام وتراجع حضاري واحتلال أجنبي يمتد في كل دولهم تقريباً، وكان الدين هو الحصن الأخير للدفاع عن أنفسهم ضد التغريب والذوبان في حضارة الآخر الأكثر قوة.

لكن لم يكن مفهوماً أن تستيقظ الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وإن ظلت ضعيفة وهامشية في المجتمع الأميركي إلى نهاية السبعينيات منه، فاشتد عودها بالتدريج حتى استقام عمودها وصار وجودها ملحوظاً وفاعلاً، وشرع الأصوليون في تخليص الدين من موقعه الهامشي، والعودة به إلى بؤرة الصورة، ولا تملك حكومة الآن أن تتجاهلهم، أو أن تضعهم خارج حساباتها في قرارات كثيرة تمس المجتمع داخلياً وخارجياً.

وإذا كان اليهود قد استخدموا أصولية يهودية يستفزون بها مشاعر بعضهم، لصناعة دولة مُغتصبة لهم في أرض الميعاد، فما الذي كان يحتاجه المسيحيون الغربيون لتأسيس أصوليتهم؟ لقد بدا الأمر غامضاً فيالبداية أمام علماء الاجتماع، كما لو أنها أصولية بلا سبب.

فالغرب المسيحي يقود العالم في كل أوجه الحضارة الإنسانية، والتقدم العلمي يتطور بقفزات مذهلة، معتمداً على عقلانية البشر أكثر من مشاعرهم.

وقيل في التفاسير إن البشر افتقدوا «الأفكار العظيمة» التي كانت تتكاثر بقوة في القرون الثلاثة الماضية، على أيدي الفلاسفة والمفكرين والاقتصاديين وعلماء الرياضيات والأحياء، الذين أضاءوا العقل بأفكار غير مسبوقة، شغلت سكان كوكب الأرض فترات طويلة ممتدة، وأحيت فيهم أحلاماً ورؤى عن عالم جديد مختلف.

لكن في نصف القرن الأخير لم يعد العالم قادراً على إنتاج هذا الكم الهائل من الأفكار العظيمة، واتجه إبداعه بالدرجة الأولى إلى التكنولوجيا، حتى يسد بها الفارق الهائل بين موارده المحدودة من الطبيعة واحتياجاته المتزايدة باطراد.

ولم تملأ التكنولوجيا فراغه العقلي الذي اعتاد على أفكار مثيرة وقوية وجديدة، فكانت العودة إلى الأصولية الدينية بديلاً مريحاً، وهي بطبيعتها تفتح باب جدل فكري مع من حولها، رافضاً أو مؤيداً.

وقد تنبأ المفكر والكاتب الفرنسي أندريه مارلو، بأن القرن الواحد والعشرين سيشهد بعثاً دينياً. وبالفعل تتوسع الأصولية البروتستانتية في الولايات المتحدة الأميركية توسعاً كبيراً، وتكسب أرضاً جديدة كل يوم.

وتشن طائفة «الدومينيونيستا» حملة دائمة لتحويل الولايات المتحدة إلى ثيوقراطية أو دولة خاضعة لحكم رجال الدين، وتحت رقابة هذه الطائفة التي تؤكد أن الديمقراطية وسيلة بغيضة للحكم طالما هي ليست تحت إرشادها، وتحرض أتباعها: «علينا أن نستخدم مذهب الحرية الدينية حتى يجيء جيل يدرك أنه لا توجد حكومة مدنية محايدة».

 هذا الجيل سوف يُشكّل أخيراً نظاماً اجتماعياً ودينياً مبنياً على التوراة، ورافضاً الحرية الدينية لأعداء الله.

وهؤلاء الأصوليون هم الدعامة الرئيسية لدولة إسرائيل، أي أن دول الشرق الأوسط واقعة بين مطرقة الأصوليين المسلمين وسندان الأصوليين البروتستانت.