طالبت الانتفاضة السورية في أيامها الأولى، بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد والاستبداد وطغيان أجهزة الأمن، وكانت الجماهير السورية، رغم عفوية انتفاضتها، تعرف بالضبط ماذا تريد أهدافاً وأسلوباً، ولذلك أطلقت شعارات أهمها وحدة الشعب السوري والحرية والكرامة، وأصرت على اتباع الأسلوب السلمي في نضالها لتحقيق أهدافها، وكان شعار «سلمية.. سلمية» هو الطاغي على المظاهرات في مختلف المحافظات السورية.

كانت القضية إذاً، صراعاً سياسياً سلمياً بين جماهير شعبية ونظام سياسي. ولسوء الحظ رفض النظام في مطلع الانتفاضة أي حوار وطني جامع، بل زاد الأمر تعقيداً بأن اتهم المنتفضين بالعمالة للخارج وقبض الأموال واستقدام السلاح والتطرف، فضلاً عن تهم عديدة غيرها، واعتبر أن الانتفاضة برمتها من عمل قوى خارجية، وبرر بذلك رفض الحوار واستخدم العنف. ورغم ذلك استمرت الانتفاضة سلمية..

وحافظت على شعاراتها نفسها، إلا أنها بسبب زيادة استخدام العنف، أضافت شعاراً جديداً هو المطالبة بإسقاط النظام، وتحولت الأزمة، من جراء صلف السلطة وقصر نظرها، من احتجاج جماهيري ومطالب جماهيرية، إلى صراع مسلح بين السلطة والشعب، وابتعدت إمكانية الحوار للوصول إلى حل سلمي وطني متوازن، وفتح استخدام السلاح ..

وإدخال الجيش في اللعبة السياسية أبواب جهنم، وظهرت ظروف جديدة زادت الأمور تعقيداً، وسهّلت التدخل الخارجي في الشؤون السورية، سواء بتقديم المساعدات أم بإرسال السلاح، أم أخيراً بفتح الباب للمسلحين من كل حدب وصوب، للمجيء إلى سوريا والاشتراك في الصراع الذي يجري فيها. ثم انشق ضباط وجنود من الجيش السوري، والتحق قسم من المنشقين بقوى المعارضة التي تسلّحت وتحالف بعضها مع المسلحين القادمين من الخارج، ثم عمدت السلطة إلى استقدام مسلحين وميليشيات لبنانية وعراقية لمساعدتها.

وشيئاً فشيئاً تم تهميش الجماهير غير المسلحة والمتظاهرين والمعارضة السياسية الداخلية والخارجية، وزاد دور الدول الخارجية وتدخلاتها، إلى أن أصبحت الأزمة وتطورها وتعقيدها أو إنهاؤها أو إطالتها في يد قوى غير سورية، أي أصبحت صراعاً بين قوى يرأسها أمراء حرب يقودون ميليشيات ممن استقدمهم النظام أو من المعارضة المسلحة، أو حتى من الجيش الذي تحول بدوره إلى ميليشيات بإمرة أمراء حرب عسكريين.

وهكذا صار الصراع بين أمراء الحرب الموالين والمعارضين، دون استراتيجية سياسية لأي منهم، ودون تفكير جدي في إيجاد حل للأزمة، ودون اهتمام بالشعب السوري ولا بمصالحه ومأساته. وهكذا لم تعد أهداف الصراع واضحة، ولا أطراف الأزمة معروفة. ولأن معظم أمراء الحرب، من جهة أخرى، يأتمرون بأوامر خارجية، فإن الخارج أصبح هو المسؤول عن الحل والقادر عليه، وما على السوريين نظاماً ومعارضة، إلا التفرج على ما يجري، وانتظار ما يقرره الآخرون لإنهاء مأساتهم.

من الطبيعي أن القوى الخارجية التي تقدم مساعداتها السياسية والمالية والعسكرية والتسليحية للطرفين المتصارعين وأمراء حربهم، هي القادرة على حل الأزمة ووضع سوريا على طريق الخلاص. ولأن توازن القوى السياسي والعسكري لا يسمح لطرف بحسم الموقف لمصلحته، فإن الجميع في حالة انتظار وتحارب، بينما يدفع الشعب السوري الثمن غالياً.

الأطراف الخارجية جميعها، تحولت هي وأمراء حربها إلى مرجئة، إذ ينتظر الجميع ما لا نعرفه ولا يعرفونه، ويتمنى أمراء الحرب إطالة الانتظار، لأن ذلك يقدم فرصة لهم ليحققوا مزيداً من الربح بطرائق غير مشروعة. أما الدول ذات العلاقة، فباعتبارها لا تستطيع حسم الموقف لمصلحتها، تترك العطالة تؤدي لعبتها ريثما يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، وريثما يتم ذلك فعلى الشعب السوري الاستمرار في دفع ثمن الحرب التي تجري على أرضه.

لقد تسربت في الفترة الأخيرة أخبار عن وجود مشاريع عدة لحل المعضلة السورية، يجري التباحث حولها سراً وبمعزل عن الإعلام وتحت الطاولة، إلا أن الملاحظ مما تسرب أن المشاريع جميعها غير جديرة بحل الأزمة، بل هي في الواقع قاصرة ومبتسرة وتصالحية، لأن أي حل للمأساة السورية لا يحقق إعادة نظر شاملة في بنية الدولة وهيكليتها ونظامها السياسي والأمني والعسكري، وتحديد المسؤوليات تجاه ما حصل خلال السنوات الثلاث الأخيرة، سيكون حلاً هشاً وغير جدي.

إن سوريا بحاجة إلى وضع أسس راسخة لدولة حديثة مدنية ديمقراطية تعددية تداولية، تستطيع إعادة الإعمار وتحقيق التنمية ورفع مستوى حياة الشعب السوري، ولا أعتقد أن هذا الهدف هو في حسبان أحد ممن في يدهم الحل، ولا هو طبعاً في حسبان أمراء الحرب.