لا تتوقف محاولات التنغيص على المصريين، من نشطاء سياسيين أغلبهم شباب متحمس ثقافته محدودة، وجماعة الإخوان والتيارات الدينية المتشددة.. النشطاء يخصون الرئيس عبد الفتاح السيسي بالترصد والتربص، حتى قبل أن يقسم اليمين الدستوري، أما الجماعة وحلفاؤها فيتوعدون ويهددون بمزيد من القلاقل والاضطرابات.

المدهش أن الطرفين لم يستوعبا بعد أن موازين القوى على أرض الواقع قد تغيرت، وأعلنت عن نفسها في التصويت الشعبي، بأرقام لم يتوقعها أكثر المؤيدين للسيسي تفاؤلا، وفي انتخابات انعدمت فيها أي دوافع للتزوير أو التدخل، وتحت رقابة عربية وإفريقية ودولية.

وربما لم يحظ رئيس مصري بهذا القدر من ثقة الناس منذ جمال عبد الناصر، وهي ثقة قلبت كل حسابات المعارضين رأسا على عقب، على الأقل في المدى القريب، ورغم هذا لا يتوقفون عن التربص والتهديد، أكثر ما يعملون على استعادة الأرض المفقودة والعودة إلى الحياة العامة بشكل يسمح لهما بحيز معقول فيها.

وقد نال حفل تنصيب السيسي قدراً كبيراً من الهجوم من هؤلاء النشطاء السياسيين، ووصفوه بعبارات تصل به إلى حفل إمبراطوري، كما لو أن مصر عائدة إلى حضن الحاكم الفرد، فكيف لوطن مأزوم اقتصادياً ورئيسه المنتخب كان يُشدد في كل أحاديثه على العمل الجاد والتقشف في الإنفاق، فإذا به ينفق الملايين على حفل التنصيب ويعطل الدولة عن العمل في هذا اليوم.

وقد يبدو هذا النقد منطقياً وله وجاهة، لكنه يفصل حفل التنصيب عن «البيئة العامة» المحيطة بمصر داخلياً وخارجياً، بعد ثورة 30 يونيو وإسقاط الإخوان عن السلطة. وكان يمكن للسيسي أن يقسم اليمين الدستوري وتُنقل له السلطة من المستشار عدلي منصور، بشكل عادي كما حدث في أربع مرات سابقة حين تولاها جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي

. لكن ثمة مواقف دولية فرضت على مصر حفل تنصيب موسع، تدعو إليه دول صديقة ومنظمات عالمية، تنهي به عدم الفهم والتشابك بين ما صنعه المصريون في 30 يونيو وهذه المواقف المرتبكة، خاصة أن دولة عظمى في حجم الولايات المتحدة لعبت طول الوقت في المنطقة الرمادية، لا هي اعترفت اعترافاً صريحاً بما حدث، ولا هي وصفته رسمياً بأنه انقلاب، ثم استعملت نفوذها الكبير في التأثير على دول أخرى للتحفظ على عزل الرئيس السابق.

باختصار، هو حفل اعتراف دولي بشرعية دستورية جديدة تنشأ في مصر.

وبالطبع كل شيء له ثمن، إذ لا شيء مجاني في هذه الحياة، وما تحمله المصريون من نفقات أقل مما كسبوه معنوياً: داخلياً وخارجياً.

وهذه الشرعية الجديدة التي اعترف بها العالم أجمع، أثارت جنون جماعة الإخوان وحلفائها، إذ تسحب البساط تماماً من تحت أقدامها، وتدعها واقفة في الفراغ تصرخ دون أن يسمع صوتها أحد، وقد استماتت الجماعة في منع المصريين من الوصول لهذا اليوم، بكل الوسائل، ولم تلق غير الفشل الذريع.

وليس غريباً أن تتسم ردود أفعال الجماعة بالتناقض والتخبط كعادتهم منذ طردهم المصريون من السلطة، ففي الوقت الذي أصيب فيه محمد مرسي بإحباط، وكتب رسالة شديدة الانفعال تعليقاً على الانتخابات يحرض فيها على العنف، تحاول الجماعة وحلفاؤها البحث عن ثغرة يمرون منها إلى تصالح مع الدولة المصرية.

ويتصور مرسي أن المصالحة يمكن أن تحدث: «لما السلطة تتمكن أكثر من البلد، هيتفاوضوا معانا لتهدئة الأحداث وساعتها محدش هيعترض».

وهو تصور كلاسيكي تتمسك به الجماعة منذ فض اعتصام رابعة العدوية، أي كلما زاد عنفها والاضطرابات التي تصنعها في الشارع، سوف يضطر النظام الجديد إلى المصالحة لتهدئة الأوضاع وعودة الاستقرار.

وتدور حالياً في الكواليس وساطة دولية، فيها شخصية مصرية شاركت في وضع خريطة المستقبل بعد عزل مرسي، شروطها أن تقتصر مهمة الجماعة على الدعوة، وينفرد حزب الحرية والعدالة بالعمل السياسي مستقلاً، وأن تفتح الحكومة تحقيقاً جديداً في أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة،.

وأن تُسدِد «دية» لأهل كل ضحية سقطت في الاشتباكات، وتعيد محاكمة قيادات الجماعة بمن فيهم محمد مرسي، بزعم أن المحاكمات حالياً سياسية، وفي المقابل سيعترف حزب الحرية والعدالة بما جرى في 30 يونيو ويقر بالشرعية الجديدة.. وأن تكون هذه المصالحة مع بداية حكم الرئيس الجديد.

ويمكن القول إن هذه الشروط مرفوضة من الدولة المصرية، لأنها تعيد الجماعة بتنظيمها الحالي إلى الساحة العامة، أي جماعة دعوية غير خاضعة لإشراف الدولة، ولها حزب سياسي مستقل شكلياً عنها، وهي عضو في تنظيم دولي يترأسه مرشدها العام.

وقد أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي رأيه واضحاً خلال حملته الانتخابية، بأن هذا الشكل التنظيمي للجماعة مرفوض ولن يكون له وجود.. وقد صار أكثر قوة بعد فوزه وتنصيبه.