هل كان الإعصار المدمر الذي ضرب العالم العربي تحت اسم منحول «الربيع العربي»، أداة تحذير ودعوة لإعادة الوعي ولم الشمل العربي؟ الناظر إلى مشهد تنصيب الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، والحضور العربي خاصة، يوقن بأن ما جرى ربما كان نعمة لا نقمة، إذ استطاع العرب تحويله إلى طاقة نور ولحظة وحدة ومنطلق آمال، ربما لم تكن لتجري بها الأقدار لولا أن تحركت المياه بين الجداول العربية.

مشهد الملوك والرؤساء العرب في حفل تنصيب الرئيس السيسي، بدا وكأنه مولد لعصر عروبي جديد، مغاير لمعطيات عصر القومية العربية في خمسينات وستينات القرن المنصرم، وربما يمكننا أن نطلق عليه عصر «عروبة العولمة» إن جاز التعبير، حيث العرب الملتئم شملهم من جديد ينتظمون في اتحاد غير معلن، لمواجهات تداعيات واستحقاقات العولمة ومشروعاتها الكونية، ضمن سياقات من التكتلات والأحلاف.

وليس أدل على ذلك من التقارب الروسي ـ الصيني غير المسبوق، الذي شاهدناه مؤخرا للوقوف في وجه الهيمنة الأميركية. فوز السيسي برئاسة مصر لقي ترحيباً عروبياً بشكل تجاوز التهنئات والتبريكات الرسمية، إلى العمل الجاد النافع على الأرض من أجل استنهاض همة مصر والمصريين، لتعود من جديد الرقم الصعب في المعادلة العربية.

لقد كانت الدعوة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأيدها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، بشأن عقد مؤتمر دولي لمساعدة مصر اقتصادياً حتى تتجاوز كبوتها، دليلاً واضحاً على أن هناك إرادة حقيقية للمضي قُدماً نحو مسيرة عروبية جديدة، تدرك أبعاد المشهد الدولي ومخاطر ضياع مصر في الطريق.

عندما يتحدث الملك عبد الله عن حتمية عون مصر في هذه المرحلة، وأن من لا يفعل يخرج عن الإجماع العربي ولا يعد «منا»، وعندما يؤكد الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد أن دولة الإمارات ستسهم بإرادة صادقة في جميع الجهود التي من شأنها تمكين الأشقاء في مصر من مواجهة مختلف التحديات، وبما يحقق لهم ما يصبون إليه من عزة وكرامة وتطور ونماء، يستطيع المرء القول إن اتحاداً عربياً عقلانياً بامتياز قد ولد، وإن لم يعلن عنه رسمياً.

ليس سراً أن المخطط الذي كان مرسوماً للعرب ومعداً بعناية، لم يكن ليضرب ويفتت مصر وحدها، بل حتماً كان سيمتد إلى بقية أرجاء الوطن العربي ودول الخليج في مقدمته، حتى تتسيّد إسرائيل المشهد وسط كيانات مفتتة، تعيد ذهنية الجرح العربي الأكبر الذي جرى في الأندلس من قبل.

وليس سراً أيضاً أن أحداً لن يترك السيسي يمضي في حال سبيله، ولا سيتركون هذه الإرادة العربية الوليدة في إطارها الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه، فالسيسي في نظر الكثير من الدوائر الإمبريالية الغربية هو عبد الناصر الجديد، لكن طبعة القرن الحادي والعشرين.

بل إن خطورة السيسي بالنسبة لهم في أنه درس في جامعاتهم العسكرية أصول الاستراتيجيات السياسية والعسكرية، ولذلك يعرف جيدا كيفية التعاطي مع الغرب، ويدرك أن روح الغرب صديق وعدو لنا في ذات الوقت.. صديق إذا تمكنا منه وعدو إذا تمكن منا، صديق إذا فتحنا له قلوبنا، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه.

وعليه فإن السيسي هنا حالة نهضوية عروبية، حجر زاوية للعرب مشرقاً ومغرباً..

مثير جداً حال العرب عندما يريدون أن يبرأوا من داء الاستكانة وأمراض الجبرية التاريخية والانغلاقات التراثية، والعصاب الانهزامي الحاد، ويريدون الحياة مرة جديدة.

وآية ذلك ما جرى بين مصر والجزائر خلال الأيام القليلة الماضية، وأعاد إلى الأذهان زمن الدعم المصري لثورة الجزائر لتنال حريتها واستقلالها، وأيام أن قدم رئيسها هواري بومدين للسوفييت شيكاً على بياض من أجل إرسال دبابات للمصريين في حرب أكتوبر.

كان ما جرى على صعيدين، فبعد رسالة التهنئة الرقيقة والمؤثرة جداً من الرئيس بوتفليقة إلى الرئيس السيسي، بدا واضحاً على صعيد الاقتصاد، الدعم والعون الذي تقدمه الجزائر لمصر فيما خص «البوتاغاز» اللازم للمصريين، والذي ترسله الجزائر بانتظام وبأسعار معقولة ومقبولة، وهناك تعليمات من الرئيس بوتفليقة شخصياً إلى شركة «سوناطراك» لتوفير كل ما تطلبه مصر.

فيما صعيد التعاون الآخر هو مجال الحدود، ففي وقت واحد أغلقت مصر والجزائر الحدود مع ليبيا لسد مسالك الهروب أمام الجماعات الإرهابية وجماعات القاعدة هناك، وليس جديداً القول إن هناك دعماً مصرياً جزائرياً غير مباشر للواء خليفة حفتر ضد الإخوان المسلمين في ليبيا، وغني عن القول ان وجودهم وتمركزهم هناك يعني وجود نقطة انطلاق لتهديد الأمن القومي المصري والجزائري في نفس الوقت، ولهذا كان لا بد من حل مصري جزائري للأزمة، ما يعني أن الاتحاد العربي غير المعلن، يمتد من الخليج شرقاً إلى المحيط غرباً.. أليس هذا هو الشعار الذي رفع في الزمن الماضي؟

 ما المطلوب عروبياً في هذه اللحظة؟ قطعاً، الحفاظ على الضوء الجديد والأمل الوليد من المؤامرات والدسائس المنطلقة نحو السيسي وحلفه، لن يتركوا السيسي بل سيحاولون إعاقته قدر المستطاع، لكن يفوتهم أن الرغبة في الوحدة والاتحاد لا تأتي بقرارات رئاسية أو برلمانية فوقية هذه المرة فحسب، بل من تطلعات شعبوية نهضوية جماهيرية أيضاً، قادرة على تفتيت الصخر وفعل المستحيل، وهذا هو الظهير الحقيقي الذي يحمي مصر واتحاد العروبة غير المعلن.