الفلسطيني ضريبة الانقسام وفاتورة المصالحة

إذا لم يكن اتفاق الشاطئ بين حركتي فتح وحماس، كافياً لإقناع الجماهير الفلسطينية بجدية الطرفين في تنفيذ ما يعرف بوثيقة القاهرة للمصالحة، فقد كان تشكيل وإعلان حكومة الوفاق الوطني، برئاسة رامي الحمد الله، سبباً لتبديل مشاعر التشاؤم بمشاعر التفاؤل، أو التفاؤل الحذر، فالمواطن الفلسطيني الذي دفع ثمن مرحلة الانقسام سبع سنوات، أصيب خلالها بخيبات أمل كثيرة، لم يعد يصدق ما يسمع، أو ما تتناقله وسائل الإعلام من تصريحات إيجابية، ولا يؤمن إلا بما يرى ويلمس، غير أنه لا يزال على خشيته من أن يكون عليه دفع ثمن المصالحة أيضاً، قبل أن يشعر بثمارها.

المواطن الفلسطيني لا يجد نفسه معنياً بأسئلة من نوع؛ لماذا وقع الانقسام ولماذا استمر لفترة طويلة؟ ثم لماذا أقدم الطرفان على تنفيذ اتفاق المصالحة؟ فما يعنيه هو أن تحقق المصالحة تبديلاً حقيقياً في ظروف حياته، وتخفيف وطأة الأزمات الصعبة التي تحيط به، وأن تكثف اهتمامه بالشؤون الوطنية العامة.

والواقع أن المستويات السياسية والإعلامية في المشهد الفلسطيني، لم تكلف نفسها عناء شرح الأمور وتفسيرها للمواطن، ما يستدعي مطالبته بالصبر والمشاركة في حماية مسيرة المصالحة، فهو اليوم مهمش في أجواء بداية تنفيذ خطوات المصالحة، كما كان حاله خلال مرحلة الانقسام.

ومع فارق الوعي والإدراك، فإن فصائل العمل الوطني التي يتهمها الطرفان (فتح وحماس) بالمشاركة في المصالحة، فيما هي لا تتجاوز حالة شاهد الزور، الذي يُدعى للاحتفالات، هي الأخرى لا تزال تقبع في خانة التهميش، وهي غير قادرة على رفض التهميش حتى لا تتهم بعرقلة المصالحة، ولا هي قادرة على تفعيل دورها بالمستوى الذي تفرضه عملية تغيير وطنية على هذا القدر من الأهمية.

كان من الطبيعي أن تصطدم المصالحة بعشرات المشكلات والقضايا والعقبات، وربما الأزمات التي تواجهها، ليس فقط لأن إسرائيل تشكل عقبةً رئيسةً أمام هذه المصالحة، التي تتعارض مع مخططاتها الجهنمية، وإنما أيضاً وأساساً، بسبب صعوبة القفز عن وقائع صعبة تكرست خلال سنوات الانقسام السبع، فالمصالحة ليست مجرد قرار بإجراء مختلف، وإنما هي عملية طويلة ومعقدة، حتى لو كان هدفها العودة بالأوضاع إلى ما قبل وقوع الانقسام، فما بالنا والكل يؤكد أن الهدف هو إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية على أسس الديمقراطية والشراكة، ووفق استراتيجيات جديدة.

أول العقبات التي ظهرت بقوة بعد أقل من أسبوع على إعلان التشكيل الحكومي، كانت قضية صرف الرواتب لنحو أربعين ألف موظف مدني وأمني، هم قوام حكومة غزة المنحلة، والسواد الأعظم منهم ينتمون لحركة حماس، فموظفو حكومة غزة بادروا إلى الاحتجاج بطريقة عنيفة ومخالفة لروح اتفاق المصالحة، حيث أقدموا على إغلاق البنوك وأجهزة الصرف الآلي، ومنعوا المحال التجارية من التعامل مع بطاقة «الفيزا»، من دون أن يدركوا أن هذا السلوك لا تقف آثاره عند حدود منع الموظفين الرسميين من الحصول على مرتباتهم، بل أدى إلى شلل الحياة الاقتصادية لمدة أسبوع كامل، قبل أن يعيدوا النظر في سلوكهم، الذي قوبل باستنكار شعبي شامل.

وملف رواتب موظفي حكومة غزة تحتاج إلى معالجة جذرية، تبدأ باستعداد حكومة رامي الحمد الله لطمأنة هؤلاء على مستقبلهم، ثم لإعمال البند الوارد في وثيقة المصالحة، الذي يقضي بتشكيل لجنة مهنية لمراجعة ملفاتهم، وتقديم تقريرها للقيادة خلال أربعة أشهر.

جواب الحمد الله، الذي أشار إلى أن حكومته تنظر في دفع رواتب الموظفين السابقين على وقوع الانقسام، لا يوفر الطمأنينة، فهؤلاء أقل من ربع عدد الموظفين المطلوب تحمل المسؤولية عن مرتباتهم، ولذلك فإن ملف هذه الأزمة سيظل مفتوحاً، وقد يؤدي إلى عودة الاحتجاجات على نحو يثير الشك في إمكانية نجاح وتقدم المصالحة.

وثمة العديد من الملفات الصعبة الأخرى، التي قد ينجم عنها تعثر هذه المصالحة، فهناك ملف التشريعي، والانتخابات والمصالحة الاجتماعية، وملف الأمن، والأسلحة، والمقاومة، وملفات أصغر من نوع ملف معبر رفح، ومداخيل غزة، ودمج المؤسسات التي تضخمت بالموظفين من الفئات العليا.

بنيامين نتانياهو، استعجل طرح ملف الأمن والأسلحة، حين طالب الرئيس محمود عباس بتنفيذ التزاماته باعتباره المسؤول اليوم عن عملية سحب الأسلحة التي ينص عليها اتفاق أوسلو، بما في ذلك من قطاع غزة. وقد لا تكون اللحظة مناسبة للإجابة عن هذا السؤال أو الطلب، لكن الأيام والأشهر اللاحقة ستثيره باعتباره استحقاقاً مهماً، لا لتلبية طلب نتانياهو فقط، بل طلبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

معظم هذه الاستحقاقات تجاوزت الآليات التي تضمنتها وثيقة القاهرة للمصالحة، ما يعني أن الوثيقة التي جرى إقرارها في مايو 2011، وكانت الظروف حينها لصالح حماس، لم تعد تفاصيلها صالحة لعام 2014.

حيث تحولت الظروف لصالح حركة فتح. وقد يكون الإطار العام للوثيقة مقبولاً، لكن يبدو أن فتح ستترجم تغير الظروف لصالحها، إلى تكييف آليات التنفيذ بطريقة ترغم حماس على دفع فاتورة الانقسام، خصوصاً أن فتح تدرك مدى صعوبة العودة إلى ما قبل اتفاق الشاطئ. إذا كان هذا هو تكتيك فتح للتعامل مع عملية المصالحة، فإن حماس بدورها لا تقدم الوسائل لاعتراض هذا التكتيك، الأمر الذي يعزز مشاعر الخوف لدى المواطن الفلسطيني من أنه هو من سيتكبد ثمن وتضحيات المصالحة، كما تكبد ثمن الصراع والانقسام.

الأكثر مشاركة