تكررت منذ انطلاقة الانتفاضات العربية، استعانة بعض الأنظمة بالميليشيات إلى جانب جيوشها النظامية، لقمع الاحتجاجات الشعبية، وكانت هذه الظاهرة مثيرة للاستغراب، فما فائدة هذه الميليشيات للأنظمة وهي تملك جيوشاً من عشرات الآلاف وأسلحة خفيفة وثقيلة ومن مختلف الأنواع، بينما لا يملك المحتجون أو الثوار غالباً سوى أسلحة فردية أو بعض الغنائم من أسلحة جيش السلطة؟

شهدنا ذلك في سوريا، حيث استعان النظام بميليشيا محلية سماها «لجان الدفاع الوطني» يدفع للمنتسبين إليها (ومعظمهم عاطلون عن العمل ودون تعليم أو مهنة) أضعاف رواتب الجندي النظامي، ويسمح لهم بنهب المساكن والمناطق التي يطردون المسلحين المعارضين منها، ويخالفون القانون بالطريقة التي يرونها. وقد نوّع النظام السوري مصادر هذه الميليشيات، فاستعان بميليشيات طائفية غير سورية من حزب الله اللبناني ومن ميليشيات عراقية، وربما من بعض الميليشيات الحوثية والأفغانية.

كما شهدنا مؤخراً استعانة الجيش السوداني بميليشيات مهمتها تأديب أهالي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وإسكاتهم والقضاء على أي تحرك للمطالبة بحقوقهم. وبطبيعة الحال يدفع لهم النظام ضعف الرواتب التي يدفعها للجنود ويعطيهم امتيازات أخرى، ويطلق يدهم في مخالفة القانون سواء لجني الأرباح أم لمعاقبة المحتجين.

وفي ليبيا أيضاً تقاسمت فصائل المجلس الوطني الانتقالي المنتخب الميليشيات، بدلاً من الجيش والشرطة وقوات الأمن، وشكل كل فصيل سياسي جيشه من هذه الميليشيات، وأطلق أيديها أيضاً في عمل ما تشاء من مخالفة القوانين والأنظمة، حتى أن بعضها اعتقل ريئس الوزراء واغتال مسؤولين كباراً، وحلت هذه الميليشيات واقعياً محل الجيش النظامي والقوات المسلحة النظامية. أما في العراق فقد وجه رئيس الوزراء نوري المالكي نداء للتطوع لمواجهة القوات القادمة من الشمال العراقي، بعد أن انهار الجيش انهياراً لا مثيل له.

وأيدت مرجعيات بعض الطوائف نداء المالكي وطالبت أتباعها بحمل السلاح والالتحاق بالتنظيمات العسكرية الجديدة (الميليشياوية). ومن المتوقع أن نشهد هذه الظاهرة في بلدان عربية أخرى في مراحل قادمة، حيث تزيد الأنظمة اعتمادها على هذه الميليشيات للدفاع عنها، بعد أن فشلت جيوشها في حمايتها.

تعود هذه الظاهرة لعدة أسباب، منها أن الأنظمة وجيوشها تمثل فصيلاً واحداً طائفياً أو إثنياً أو حزبياً، وعندما تواجه بالانتفاضة الجماهيرية الشعبية تعود إلى هذا الفصيل وتستنجد به لإنقاذها، ويتحول النظام عندها إلى مجموعة مقاتلة، ويتخلى عن كونه نظاماً سياسياً يدّعي تمثيل الشعب بمختلف أطيافه السياسية والاجتماعية وغيرها. لا تستطيع الجيوش النظامية القيام بما تقوم به الميليشيات.

لأن هذه الجيوش تضم عناصر من مختلف شرائح المجتمع، كما أنها جيوش محترفة أو شبه محترفة، وبالتالي يصعب إقناعها بالقيام بمهمات داخلية لا علاقة لها بالدفاع عن الوطن. وللجيوش النظامية عادة ثقافة خاصة تحترم، ولو جزئياً، الاتفاقيات الدولية وقوانين الحرب، وهذا كله لا تلتزم به الميليشيا، التي لا تطبق تقاليد الضبط والربط، .

وتكون ممارساتها أقرب إلى الاستجابة للغرائز المتخلفة المادية والمعنوية، فضلاً عن أن بعضها (في حال الميليشيا الطائفية) ينجرف وراء وهم مفاده أنه يدافع عن طائفته، مذهبية كانت هذه الطائفة أم إثنية أم غير ذلك. وفي الحالات كلها فإن الظاهرة تدل بما لا يقبل الشك، على ضعف الأنظمة وفشلها في حل مشاكل شعوبها، وإخفاق جيوشها في القضاء على الاحتجاجات الشعبية أو الثورات، سواء كانت مسلحة أم غير مسلحة.

يعيدنا خيار اللجوء للميليشيات إلى تاريخ الجيوش غير النظامية، التي اعتمدت عليها أنظمة عديدة في التاريخ وكانت تُشكل غالباً لخوض معارك وحروب بعينها، ثم تنتهي مهمتها بعد انتهاء تلك المعارك والحروب. وفي بداية نشوء الأمم كانت الجيوش كلها عبارة عن متطوعين وميليشيات، رواتبها مما يغنمه هؤلاء المتطوعون في حروبهم.

ومنذ قيام الدولة الحديثة تراجع دور المتطوعين المؤقتين في الجيش لحساب نمو المنتسبين المحترفين، وتشكلت الجيوش الدائمة والثابتة، ووضعت لها الأنظمة والقوانين، وتأسست التقاليد العسكرية والحربية، وتم الالتزام بالوظائف الأساسية لهذه الجيوش، وخاصة الدفاع عن الوطن، وكُفت أياديها عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، باستثناء الاستعانة بها عند الكوارث الطبيعية والزلازل وما في حكمها.

وما عدا ذلك فليس من مهمتها مواجهة الحركات الشعبية والثورات الداخلية السلمية أو المسلحة. ويبدو أن بعض الأنظمة العربية يريد أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، ويستعين بهذه الميليشيات بدلاً من الجيوش، ويؤكد هذا التصرف أن هذه الأنظمة هي أنظمة فاشلة، تلجأ إلى وسائل بدائية لتحقيق الاستمرار بأي وسيلة من الوسائل.

وتزج جيش الأمة ليحارب شعبها ويستدرك عيوب الأنظمة السياسية. ينبغي توقع حدوث مشكلات وصعوبات عديدة لهذه الميليشيات، وللشعب أيضاً، عند انتفاء الحاجة إليها وحل تنظيماتها، إذ إن متطوعيها لا يستطيعون، لأسباب عديدة، العودة للعيش كغيرهم من المواطنين الذين يواجهون شظف العيش أو قلة الدخل، ويمنعون أنفسهم من مد اليد إلى أموال الغير أو أملاكهم أو التحكم في رقابهم.

كما تعودوا، وخاصة إذا سقطت الأنظمة التي استخدمتهم. وتزداد الصعوبات باعتبارها ميليشيات مسلحة من غير السهل جمع سلاحها، ويشكل استمراره بين أيدي عناصرها خطراً كبيراً على حياة الناس واستقرار البلاد، وبالتالي ستكون هذه الميليشيات ظاهرة مقلقة لأي نظام وأي مجتمع.