هل ما جرى ويجري في العالم العربي منذ حرب أكتوبر 1973 وحتى الساعة، هو مسار عشوائي للأحداث أم تخطيط معد له بصورة مسبقة؟

يعد ريتشارد هاس أحد أهم العقول الأميركية المنظرة للسياسات الخارجية لبلاده، منذ أوائل السبعينات، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ولهذا فإنه عندما يتحدث فلا أحد يزايد عليه، وعندما يقر بأن ما يجري في العالم العربي هو رسم جديد لخطوطه وحدوده، عبر سايكس- بيكو ثانية، فإن على الناظر للمشهد العربي الدموي أن يصدق ما تردد عن وجود سيناريوهات داخل البنتاغون، لإسقاط سبع دول عربية في خمس سنوات، وعلى القارئ أن يدرك أبعاد أكبر خدعة ومقلب عاشته العرب في السنوات الثلاث الماضية، تحت مسمى الربيع العربي.

ما الذي قاله هاس؟ وماذا عن السيناريو الآخر للبنتاغون؟ في الأيام القليلة الماضية تحدث ريتشارد هاس في لندن إلى بعض وسائل الإعلام، مشيراً إلى أن سايكس ـ بيكو جديدة في الشرق، هي الحل الذي سينقذ أميركا من ورطتها المتفاقمة في العراق، وترددها في سوريا، وأن الشيء الوحيد الذي بات مؤكداً وفقاً له، هو أن الشرق الأوسط القديم يؤول إلى التفكك، وأن السؤال المتبقي هو؛ متى يأخذ الشرق الأوسط الجديد مكانه؟

يتساءل المرء؛ هل يستقرئ هاس المشهد الشرق أوسطي بناء على ما لديه من معلومات ومعرفة؟ أم أن الرجل يسلك طريق التنبؤات التي تحاول أن تحقق ذاتها بذاتها؟ في تقديري أنه لا يتنبأ، بل يتحدث وفقاً لمعلومات وتقديرات استراتيجية أميركية، بعضها تسرب بالفعل في الأسابيع الماضية، ويتصل بالخلفية المؤامراتية، التي كانت وراء الربيع العربي، تلك الأداة التي ستقود لاحقاً ولا شك إلى التفكيك والتفتيت في الجسد العربي، ومن ثم سايكس- بيكو الثانية.

في أوائل يونيو الجاري كشف تقرير صدر في واشنطن، عن مخطط أميركي بدأ عام 2010 لتغيير الأنظمة في بعض الدول العربية، واستبعاد إيران، ودعم حركة الإخوان المسلمين، وأن هذا المخطط صادق عليه الرئيس الأميركي باراك أوباما.

الوثيقة التي تحوي التقرير، كشفت عنها مجموعة «الشرق الاستشارية»، التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، وتشير بالتفصيل إلى الوسائل، التي اتبعتها إدارة أوباما لتنفيذ مخططها السري، وهي سياسة الدعم السري للإخوان المسلمين، وحركات التمرد والمنظمات الحقوقية غير الحكومية في الشرق الأوسط منذ عام 2010، وذلك لتغيير السياسة الداخلية في البلدان المستهدفة، لصالح أهداف سياسية ومصالح خاصة بالأمن القومي للولايات المتحدة.

عنوان الوثيقة، كعادة الكثير من العناوين البراغماتية الأميركية التي تحمل السم الناقع المستتر في العسل، كان «مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط.. نظرة عامة»، وخلاصة الوثيقة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن ثورات الربيع العربي كانت المقدمة الأميركية المقصودة لنشوء وارتقاء زمن سايكس- بيكو الثانية.

علامة استفهام مهمة أخرى: هل كانت هذه الوثيقة هي الوحيدة أو الفريدة من نوعها في هذا الإطار المؤامراتي غير المسبوق؟ منذ أواخر السبعينيات كان النفط هو الهاجس الأميركي الأول والأهم، لا سيما في ظل الصراع مع الاتحاد السوفييتي.

وقد كانت لحظة التنوير العربي في عام 1973، عندما عرف العرب كيفية تفعيل سلاح النفط، الذي قال عنه حكيم العرب زايد الخير، رحمه الله، إنه «ليس أغلى من الدم العربي»، كانت تلك اللحظة مصيرية بالنسبة لصناع القرار في أميركا وأوروبا، في تقرير مسار ومصير العالم العربي، ومن ثم ظهر سيناريو التفتيت والتفكيك. كان ذلك رسمياً في عام 1980، عندما اقترح برنارد لويس، المؤرخ البريطاني الأصل الأميركي الجنسية الصهيوني الميول والتوجهات، على إدارة كارتر مشروع الشرق الأوسط المجزأ أو المفكك، الذي يخدم المصالح الإسرائيلية قبل الأميركية، وقد تمت الموافقة عليه بالإجماع في الكونغرس عام 1983.

شهادة أخرى تؤكد أن ما نراه ليس مساراً عشوائياً للأحداث، فعلى هامش ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر، يروي الجنرال «ويسلي كلارك» القائد العام لحلف الناتو، كيف أن جنرالات البنتاغون في إدارة بوش الابن، لم يتخذوا فقط قرار غزو العراق في 20 سبتمبر، أي بعد تسعة أيام من الحدث الجلل، بل إنهم أطلعوه على أوامر عليا للاستعداد لاحتلال سبع دول في خمس سنين، وهي: العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، الصومال، السودان.. ومن ثم إيران.

يلفت النظر أن هاس في تصريحاته الأخيرة لم يتناول الشأن العراقي فحسب، بل أكد كذلك حتمية تقسيم سوريا لإنهاء الأزمة الدائرة هناك، التي تبدو واشنطن ولو ظاهرياً غير قادرة على مواجهة تبعاتها.

السؤال الواجب طرحه؛ هل من انفراجة عربية في مواجهة هذه اللحظة الدراماتيكية؟ أم أننا اعتدنا على التعويل على الآخر في حل مشكلاتنا أبداً ودوما؟!

ما تواجهه أمة العرب ليس حادثة، بل كارثة تحتاج إلى تنادٍ عربي سريع فاعل ناجز، لمواجهة السيناريوهات الظلامية المعدة لها، التي لن توفر أحداً من وبائها الأسود؛ الإرهاب، طاعون القرن في الحال والاستقبال.