يهتم العالم بالمجازر والقتل في سوريا وهذا أمر طبيعي، إذ الأولوية دائماً للإنسان، وللاهتمام بالضحايا البشرية، ويدرج الجوانب الاقتصادية بعد ذلك، مع أنها شديدة الأهمية باعتبارها شاهداً على الأوضاع السورية الحالية، ومستوى حياة الناس الحاضرة والمقبلة، فالأوضاع الاقتصادية الحالية التي نتجت عن العنف والحرب، أعادت سوريا أربعين عاماً إلى الوراء، حسب دراسة المركز السوري لبحوث السياسات، وحسب دراسات «الإسكوا» ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى، فبعد أن كانت سوريا بلداً متوسط النمو، ومتوسط المستوى الاقتصادي والاجتماعي، أصبحت ضعيفة النمو ومتخلفة اقتصادياً واجتماعياً.
وتشير دراسة أعدها المركز المذكور، الذي يديره مختصون وأكاديميون سوريون يتعاونون مع منظمات الأمم المتحدة، إلى تفكك بنية القطاع الاقتصادي السوري، من خلال إغلاق كثير من المشاريع أو إفلاسها، وهروب رؤوس الأموال، ونهب أصول الشركات والمعامل المادية، وعزوف الاستثمارات عن العمل في سوريا، بسبب الحال الأمني، والفساد، وعدم الاستقرار، وغير ذلك.
لقد انتشر في سوريا «اقتصاد العنف» المادي والمعنوي، وتمت الاستهانة بحقوق الملكية وسيادة القانون، ونشأت نخبة اقتصادية جديدة طبقت سياسة اقتصادية جديدة أيضاً، سواء بمضمونها أم بأسلوبها، يمكن وصفها باقتصاد الصفقات والخداع والتجارة بالسلاح والسلع الممنوعة اجتماعياً ورسمياً، والاتجار بالبشر أيضاً، هذا من حيث المضمون، أما من حيث الأسلوب فقد مارست شبكات تجارية واقتصادية عديدة غير شرعية، الاستهتار بالقوانين والأنظمة وحياة البشر وتقاليد الشعب وقيمه، وارتبطت بشبكة موازية من ذوي النفوذ، الذين يساعدونها على استمرار هذه التجارة المحرمة وغير الشرعية.
لقد بلغت الخسائر الاقتصادية السورية، حسب تقارير مراكز دراسات خاصة أو تابعة للأمم المتحدة، حتى الآن 143 مليار دولار، أي ما يعادل 75% من الناتج المحلي الإجمالي (الدخل القومي) لعام 2010، وتراجع الناتج المحلي في سوريا لهذا العام 38% عما كان عليه في العام الماضي، وبلغت خسائره 70 مليار دولار أميركي.
وقد نشأت هيكلية جديدة للاقتصاد السوري، فزادت نسبة مشاركة بعض القطاعات في الدخل القومي على حساب قطاعات أخرى، نتيجة دمار الشركات الصناعية، وتعذر استخراج النفط والفوسفات، وتوقف السياحة والنقل والترانزيت وغيرها، فأصبحت الزراعة تمثل نسبة كبيرة جداً من الناتج المحلي الإجمالي قدرها 50%، علماً بأنها لم تكن تتجاوز 30% قبل الأحداث، واضطرت سوريا نتيجة ذلك إلى مزيد من الاستدانة، فبلغ الدين العام 136% من الدخل القومي، ومعظم هذا الدين جاء من إيران.
لقد انعكس تفكيك الاقتصاد السوري والصعوبات التي واجهته، ونشوء نخب جديدة تنتهك القانون، وتعمل لتأسيس اقتصاد بديل (أسود) يعتمد على التهريب والفساد وعدم الاهتمام بمصالح الناس، كل ذلك انعكس على حياة الشعب السوري واستقراره، وزاد أسعار نفقاته الاستهلاكية وأدى إلى تخفيض دخله، فقد زاد متوسط أسعار المستهلك السوري 178%، ولكن هذا الرقم يشوبه بعض التضليل، ذلك أن السلع الغذائية من الأجبان والألبان وما في حكمها ارتفعت أسعارها 360%، وارتفع متوسط أسعار السلع الغذائية عامة 275%، وأسعار التدفئة والوقود 300%.
وفي الوقت نفسه ارتفعت البطالة بين السوريين إلى 54%، أي بلغ عدد العاطلين عن العمل 3.3 ملايين، منهم نحو 2.67 مليون فقدوا عملهم بعد الأحداث، وهم يعيلون 11 مليون شخص، أي بصريح العبارة؛ لم يعد لهذه الملايين أي دخل تعتاش منه.
ونتيجة ذلك يلاحظ الآن أن معظم السوريين استغنوا عن عديد من السلع الغذائية، وأصبح طعامهم يقتصر على نوع واحد هو الأرخص، وإذا زرت متجراً لبيع الخضار مثلاً، تلاحظ تردد السيدات اللواتي يرتدن المتجر في شراء بعض السلع الغذائية، رغم الحاجة إليها، عندما يرين أسعارها. ومن طرف آخر، يشهد المراقب سوريات يشترين كمية قليلة جداً من الخضار والمأكولات والسلع الأخرى، بسبب ارتفاع الأسعار نسبة إلى الدخل القليل أو المنعدم، أما الكارثة الكبرى فقد حلت ببائعي الألبسة والأدوات الصحية والكهربائية والأحذية وغيرها، ذلك أن هذه السلع لا تجد من يشتريها ويكتفي السوري الآن بما كان لديه سابقاً من هذه السلع، ويتجاهل الحاجة لسلع جديدة، ما انعكس سلباً على تجارها، حيث نجد المتاجر السورية خالية من الزبائن تقريباً.
وقد أدى ذلك إلى صعوبات أخرى لم تكن في الحسبان، هذا إضافة إلى ارتفاع أسعار الأدوية، حيث لا يستطيع المرضى الاستغناء عن بعض الأدوية المستوردة التي فُقدت في السوق باعتبارها أدوية أجنبية، وقد دُمرت المعامل السورية التي كانت تملك امتيازات لصناعتها، ويمكن رؤية هذا الأمر في جوانب عديدة أخرى.
إن المأساة السورية إذاً، لا تكمن فقط في عدد الضحايا التي خسرها الشعب السوري، ولا في سياسة العنف وتقاليده وقيمه، ولا في تدمير المنازل والترحيل والتهجير فقط، وإنما أيضاً تكمن في الانهيار الاقتصادي الحقيقي، الذي نادراً ما يتحدث عنه أحد خارج سوريا، الذي يعاني منه الشعب السوري، إضافة لمعاناته الأخرى في مختلف جوانب الحياة.
ربما لن تظهر النتائج الاقتصادية السلبية الحقيقية وعمقها واتساعها، الناجمة عما أصاب الشعب السوري خلال مدة قصيرة، ولكنها بالتأكيد ستلقي بظلالها على حياة هذا الشعب لعشرات السنين، ومن غير المبالغة القول، إن الشعب السوري فقد حيويته وحراكه العربي والقومي لمدة طويلة قادمة، لصعوبة تجاوز الشروط الموضوعية الاقتصادية وغير الاقتصادية، التي أحاطت بحياته الحاضرة والمقبلة.