قبل أيام من هلال رمضان، اندلعت حرب محدودة قد تتسع كالعادة، بين بعض فصائل تيار الإسلام السياسي في مصر، لا تشي فقط بأزمة هذا التيار مع مجتمعه ودولته، وإنما تنزع أيضاً النقاب عن أزمة فكرية حادة تتجاوز الموقف المعقد الحالي، إلى مفاهيم الدين والسياسة والاجتهاد الفقهي.
وقد أشعلتها مقالة صغيرة كتبها عبود الزمر، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وأحد المدانين في جريمة قتل الرئيس الأسبق أنور السادات عام 1981. عنوان المقالة «الأسير لا يقود والجريح لا يقرر»، يطلب فيها من جماعة الإخوان أن تراجع نفسها، لعلها تعترف بأخطاء ارتكبتها وألقت بها خارج المشهد العام المصري بعد وصولها للحكم، ودفعت بقيادات الجماعة خلف القضبان جرحى بدنياً ونفسياً، وهو ما يحول دون القيادة ويؤثر في صحة أي قرار منهم.
وبالتالي سقطت ولاية الرئيس محمد مرسي، وعلى الجماعة أن تعترف بالشرعية الجديدة، لفتح أبواب مصالحة تتيح لها إنهاء صراعها مع الدولة، والعودة إلى انتخابات مجلس النواب القادم، وفي المقابل تدفع خزينة الدولة دية لأهل الضحايا الذين سقطوا في صخب فض اعتصامي رابعة والنهضة.
ما كاد المقال يُنشر، حتى اهتزت أركان «تحالف دعم الشرعية» المُطالب بعودة مرسي للسلطة، والمكون من الإخوان وأحزاب دينية هامشية محدودة الأثر والتأثير، وحدث فيه ما يشبه الانقسام بين تأييد دعوة «الزمر»، أو رفضها والانقضاض على صاحبها، وانهال طوفان من الردود.. رد وحيد التزم بمناقشة الدعوة سياسياً، أما بقية الردود فقد انغمست في التفسير الفقهي لولاية الأسير وولاية الجريح، وهو ما كشف عن عمق الأزمة الفكرية.
وعلى الجانب الآخر اعتبر البعض أن المقال نوع من الالتفاف على انتخابات مجلس الشعب القادمة، وبداية تحالف انتخابي بين الإخوان وبعض التيارات الدينية كالجماعة الإسلامية وحزبها وجماعة الجهاد وحزبها، لتتسلل منه الجماعة إلى البرلمان المصري وتصبح رقماً فاعلاً في صناعة التشريع في السنوات الخمس المقبلة، سواء في عرقلة قوانين غير مرغوب فيها أو اقتراح قوانين مطلوبة تمريرها.
وفي السياسة لا يصح التعامل مع النيات، ولكن مع الوقائع، ويهمنا في هذا المقام أن الجماعة أطلقت قذائفها الثقيلة على عبود زمر، اتهامات عنيفة وألفاظ حادة وادعاءات قاسية، حتى إن بعض أعضاء جماعته وحزبه (البناء والتنمية) تبرأ من المسؤولية في بيانات رسمية، قالت إن ما كتبه «الزمر» مجرد رأي شخصي موصول به مقطوع بانتمائه السياسي. وراحت الجماعة «تُعاير» عبود الزمر بأقوال سابقة له، وكان الزمر قد كتب عن الدكتور عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين «لا ولاية لضرير»، وكان الدكتور عمر كفيفاً، وهو الذي أفتى بوجوب قتل الرئيس أنور السادات، فرد عليه الدكتور عمر بـ«لا ولاية لأسير»، وكان الزمر وقتها محكوماً عليه بالسجن المؤبد.
وكتب الدكتور عز الدين الكومي عضو مجلس شورى جماعة الإخوان، تفسيراً فقهياً يدحض ما قاله الزمر عن ولاية الأسير والجريح، وقال: «نعود للشق الفقهي في القضية، لقد حوصر ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه أياماً في بيته، ولم يتمكن من إدارة شؤون الدولة وكبار الصحابة في المدينة، وعلى رأسهم المبشرون بالجنة وفيهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، ولم يقل أحد من الصحابة لا ولاية للخليفة لأنه أسير أو ما شابه، كما زعم الزمر، ولم يخلع أحد منهم يداً من طاعة، بل بقي الحسن والحسين وعبدالله بن الزبير يدافعون عن الخليفة حتى آخر لحظة، أما عن قوله والجريح لا يقرر، فهذا أيضاً محل نظر، فقد جرح عمر رضى الله عنه جراحاً بالغة، وقرر أن تكون الشورى في الستة الذين سماهم، وأمر من يصلي بالناس، وأدار الأمور كاملة حتى فاضت روحه إلى بارئها».
أي أن الدكتور عز الدين خرج من العصر الحديث بأكمله ومن الموقف الراهن برمته، ورجع بنا قرابة 1400 عام ليفسر أحداثاً في مصر الآن، مقارنة بأحداث وقعت في ظروف خصوصاً. وهذه هي الأزمة الفكرية التي يعيشها تيار الإسلام السياسي كله، وهو تلبيس العصر الحديث ملابس قديمة للغاية، وفق أحداث لها أسباب مختلفة وظروف مختلفة حتى لو تشابهت في جزء منها، ويزعمون أن تلك الملابس القديمة هي الشريعة.
وبالقطع الشريعة الإسلامية ممتدة في الزمان والمكان إلى يوم الدين، لكن بمقاصدها الكلية، وليس بتفاصيل الوقائع التي جرت في زمن مختلف وبيئة مختلفة، ولم يحاول عضو مجلس شوري الجماعة أن يفسر ما حدث في مصر وفق مقاصد الشريعة، وإنما وفق تفاصيل صغيرة وقعت في زمن الفتنة، لا تمت لعصرنا بصلة.. وهذا هو سبب أزمة الإخوان الحقيقة ومن هم على شاكلتهم.