لكأن الحكومة الإسرائيلية كانت تنتظر ذريعة تمكنها من قلب الطاولة، وتحقيق جملة من الأهداف التي تعجز عن تحقيقها، لولا توفر ذريعة اختفاء المستوطنين الثلاثة في المناطق التي تسيطر عليها أمنياً من مدينة الخليل في الضفة الغربية. فعملية الاختفاء بحد ذاتها، تشكل صفعةً قويةً للجيش الإسرائيلي والأجهزة الاستخباراتية التي يبدو أنها تعجز عن حماية المستوطنين.

الحاجة لمثل هذه الذريعة تدفع بعض المراقبين والمحللين للاعتقاد بأن اختفاء المستوطنين الثلاثة، هو عمل من تدبير أجهزة المخابرات الإسرائيلية، خصوصاً وأن أياً من الفصائل الفلسطينية لم يعلن مسؤوليته عن العملية. وقد تكون مثل هذه الحالة ممكنة في بعض الدول العربية، لكنها تشكل مجازفة خطيرة في إسرائيل، قد يؤدي انكشافها إلى الإطاحة بالحكومة، وبعدد من أصحاب المسؤوليات والرتب العالية في الجيش وفي أجهزة الأمن الإسرائيلية.

وبغض النظر عن إمكانية قيام جهة فلسطينية بالعملية، فإن إسرائيل أرادت منذ البداية توجيه الاتهام مباشرةً إلى حركة حماس، وانساقت خلفها الإدارة الأميركية، لأن طبيعة الأهداف الإسرائيلية تتطلب ذلك. فحكومة نتانياهو، تستهدف الإطاحة بالمصالحة الفلسطينية التي بدأت أولى خطواتها بتشكيل حكومة الوفاق الوطني، لأن الانقسام بين الفلسطينيين كان بمثابة إنجاز كبير للسياسة الإسرائيلية، الرامية لتقويض أساس فكرة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، والتأسيس لإقامتها في قطاع غزة. وثاني الأهداف، تفكيك العزلة الدولية التي تقع فيها إسرائيل، على خلفية مواقفها ومسؤولياتها عن فشل الجهود الأميركية والدولية لتحريك عملية السلام.

الولايات المتحدة لم تتخل عن دورها ومبادرتها، لكنها كما قال الرئيس أوباما، ستترك الطرفين لبعض الوقت حتى تنضج ظروفهما على نحو أفضل، ويصبحا أكثر استعداداً للعودة إلى طاولة المفاوضات بأقل الشروط الممكنة. في هذا السياق، لم تنجح إسرائيل في الحصول على موقف دولي يتبنى موقفها المعادي للمصالحة الفلسطينية وحكومة الوفاق، ولذلك كان لا بد من توفير ذريعة قوية لمعاودة التحريض على السلطة، بدعوى أنها تحالفت مع الإرهاب الحمساوي.

أما الهدف الثالث، فيتصل بتهدئة الجهة الداخلية الإسرائيلية، حيث تصاعدت التناقضات داخل الائتلاف الحكومي، على خلفية سياسة نتانياهو تجاه الفلسطينيين وملف المفاوضات، والعلاقة مع الحلفاء خاصة الولايات المتحدة، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يعلن نتانياهو في اليوم الثاني لاختفاء المستوطنين الثلاثة، أن إسرائيل في حالة حرب. فحالة الحرب تعني أن على الجميع التزام الصمت، والالتفاف حول الحكومة والجيش.

لتحقيق هذه الأهداف، كان على الحكومة الإسرائيلية أن تجتاح قواتها الضفة الغربية كلها، في ما اعتبره البعض عن حق، حملة السور الواقي (2)، وذلك بحجة البحث عن المفقودين الثلاثة. وبهذه الحجة أيضاً، تستضعف السلطة الفلسطينية وتدفعها بقوة نحو الإيغال في التعاون الأمني، على الأقل لكي تبرئ نفسها من الادعاءات الإسرائيلية.

مرور نحو عشرين يوماً على عملية اختفاء المستوطنين الثلاثة دون أن تنجح الأجهزة الإسرائيلية والفلسطينية في الوصول إلى المخطوفين والخاطفين، يؤكد فشل الجيش والأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، فضلاً عن أن إسرائيل لم تحقق الأهداف التي وضعتها لعمليتها الجديدة.

وطالما لم يحقق نتانياهو أهدافه، فإنه لن يستعجل العودة إلى محاسبة عسيرة من بعض أطراف ائتلافه الحكومي، ومن جماعات المستوطنين، الذين يتهمون الحكومة بالعجز عن حمايتهم، ولذلك فإنه يتجه لتوسيع عملياته العدوانية نحو قطاع غزة، حيث مركز قوة حركة حماس، لكن ذلك يحتاج إلى ذريعة أخرى قوية، طالما أنها لم تعلن مسؤوليتها عن عملية اختفاء المستوطنين، ولذلك بدأت إسرائيل عملية تصعيد متدرجة، أملاً في شراء رد فعل فلسطيني لتوسيع نطاق العدوان على القطاع.

الفلسطينيون الذين يدركون أبعاد ما تقوم به إسرائيل من تصعيد متدرج، مستعدون لتحمل بعض تكاليف اعتداءاتها اليومية على القطاع، مما دفع إسرائيل إلى معاودة سياسة الاغتيالات لكوادر المقاومة، اعتقاداً بأن هذه السياسة كفيلة باستدراج فصائل المقاومة نحو الرد من خلال إطلاق الصواريخ. العملية التي بدأتها إسرائيل في الضفة الغربية كمرحلة أولى وتتجه نحو قطاع غزة، تفتح الأبواب أمام تغيرات كبيرة على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، تنطوي على احتمالات قد تؤدي بهما للعودة قبل نهاية هذا العام إلى طاولة المفاوضات، والانصياع للإدارة الأميركية، التي تبدو أكثر جاهزية لطرح أو فرض أفكارها بشأن التسوية المحتملة.