في سوريا يُمارَس العنف والتدمير والتخويف والسرقة والنهب والابتزاز وقطع الأرزاق والخطف، بهدف الحصول على الفدية، فقد أدى العنف إلى عشرات آلاف القتلى الذين تجاوز العدد الموثق منهم 160 ألف قتيل، إضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى والمعاقين والمعتقلين، كما أصاب التدمير كلياً أو جزئياً أكثر من مليون مسكن، مما اضطر معظم أصحابها لمغادرتها إلى أمكنة أخرى آمنة.

وانتشرت ظاهرة السرقة الكبيرة والصغيرة في معظم المدن والبلدات، من المسلحين من مختلف الفصائل، حيث يقوم هؤلاء بنهب البيوت المدمرة في المناطق التي يحتلونها، إضافة إلى أن أمراء الحرب من بعض الجهات المسلحة المتحاربة، من أنصار النظام وغيرهم، يقومون بعمليات خطف من أجل الابتزاز والحصول على الفدية، كما يقومون بطلب »جعالات« من التجار والبائعين الصغار وأصحاب المصالح، إما لحمايتهم أو للسماح لهم بالاستمرار في عملهم.

لقد غادر سوريا 12% من سكانها، حسب دراسات الأمم المتحدة ومركز بحوث الدراسات السوري، وترك 45% من السكان أماكن إقامتهم المعهودة، ورحل بعضهم إلى أماكن أخرى تقدم لهم الأمن، وبلغ عدد النازحين كلياً من منازلهم حوالي 6 ملايين نازح، وهاجر من سوريا حوالي أربعة ملايين منهم 2.5 مليون مهجر مسجل لدى الأمم المتحدة ومقيم في الدول المجاورة ويأخذ بعض المساعدات، و1.5 مليون مهاجر خارج البلاد بإرادتهم ويعيشون على نفقتهم.

وبلغ عدد السوريين الذين يعيشون في فقر شديد 55% من السكان يكادون لا يحصلون على الحد الأدنى من متطلبات العيش، منهم 20% يعيشون في فقر مدقع، إضافة إلى نقص الخدمات التعليمية والصحية التي تقدمها الدولة لمواطنيها.

فلم يذهب نصف التلاميذ السوريين لمدارسهم هذا العام، بسبب تهديم أو احتلال أو استخدام المدارس في مهمات غير تعليمية، وبلغ عدد المدارس الموضوعة خارج الخدمة 4000 مدرسة، تستخدم إما للإيواء أو لإقامة القوات العسكرية أو تهدّمت، ولم يلتحق 90% من التلاميذ بالمدارس في حلب والرقة مثلاً، و68% في ريف دمشق، وهؤلاء التلاميذ الذين ينبغي أن يكونوا في مدارسهم، انتشروا في الشوارع وفي كل مكان، يعملون بأي شيء أو يتسولون.

لم يكن حظ السوريين من الخدمات الصحية أفضل من ذلك، فقد انهارت الصناعات الدوائية، إما بسبب تدمير المعامل أو هجرة الفنيين خارج البلاد، وتكاد الأدوية التي تنتجها الصناعات الدوائية السورية تفقد من الصيدليات، وهاجر الأطباء والمختصون ودمر بعض المشافي الخاصة والعامة أو أصابها الضرر، فقد تضرر 60% من 91 مشفى حكوميا على امتداد الأراضي السورية، وخرج 45% منها من الخدمة، وتضرر 53 مشفى خاصا ضرراً كلياً أو جزئياً.

وبذلك يفقد الجهاز الطبي السوري فعاليته، ويُترك الناس إما للمعالجة مرتفعة التكاليف أو لإهمال صحتهم، وهناك مئات آلاف الجرحى الذين تضرروا بالدمار الذي حصل ويحتاجون لعلاج مؤقت أو طويل الأمد.

ولنا أن نتصور نفسية شعب أصيب بمثل هذه الأضرار الإنسانية، وقسم منه، إضافة لذلك، لا يجد ما يطعم به عائلته أو يعالج مرضاه، بعد أن أصبحوا بدون مساكن ولا دخل ولا غذاء ولا علاج، فكيف يمكن أن يكون الوضع الاجتماعي والإنساني والنفسي لهؤلاء؟ الكارثة لا تتمثل فقط في عدد الضحايا والتدمير والترحيل وفقدان العمل، بل في النتائج الحياتية والإنسانية الأخرى.

لم يعد من هموم الحكومة السورية القائمة الآن حل مشاكل الناس الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، التي أهملتها كلياً لصالح اهتمامها بـأمن النظام وتقديم مستلزمات الجيش والحرب على حساب قوت الشعب ومتطلبات حياته. كما أن المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة والدول الأخرى والمنظمات غير الحكومية، لا تحل أي مشكلة اجتماعية أو اقتصادية، والقسم الأكبر منها تصادره السلطات السورية وتوزعه على غير المستحقين، سواء من الجنود وأسرهم وأقربائهم أو بعض الشرائح السكانية الموالية الأخرى، إضافة إلى سرقة قسم من هذه المساعدات من القائمين عليها.

وبالتالي لا يصل إلى المحتاجين من النازحين والفقراء السوريين إلا النزر اليسير. وقد تحول الشعب السوري في المحصلة إلى شعب جائع ومشرد، وبعضه الآخر ملاحق بالاعتقال والتعذيب والقتل. أجمع الدارسون ومراكز بحوث ودراسات خاصة أو تابعة للأمم المتحدة، على أن مستوى التنمية السوري تراجع تراجعاً كبيراَ، وتراجعت معه القضايا الإنسانية والوضع النفسي والحراك الاجتماعي والسياسي، والاهتمام بالقضايا القومية والدولية والقضايا العامة لدى الشعب السوري.

ولا شك أن هذه المؤشرات هي شروط أثرت في هذا التراجع، ولم يعد بالإمكان عربياً الأخذ في الاعتبار أي دور لسوريا في أي قضية قومية حاضراً ومستقبلاً.

واستطراداً لم تعد سوريا صالحة لتحرير أرضها المحتلة، بسبب ما حل بها عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، حتى أن سلم الأولويات انقلب في وعي الشعب السوري، وصار من المشكوك فيه أن الأولوية هي تحرير الجولان أو العمل لنظام عربي جديد أو ما يشبه ذلك. إن السوريين الآن أمام سلم أولويات مختلف عما كان عليه الحال قبل الثورة، ولعله تدهور لم يكن يوماً في حسبان الشعب السوري ولا العربي، بعد أن كانت سوريا قلب العروبة النابض.