يفرض المشهد المأساوي في غزة والمذابح المرتكبة ضد المدنيين العزل من أهل القطاع، علامة استفهام عريضة حول الدور الأمريكي وأبعاده في تشجيع إسرائيل على المضي في غيها وبطشها، وضربها عرض الحائط بكافة القوانين والمواثيق الدولية.

ولعل ما صدم المتابعين لتطورات المشهد في غزة خلال الأيام القليلة المنصرمة، هو ردة الفعل الأمريكي التي صدرت على لسان وزير الخارجية جون كيري، الذي أوجد المبررات والذرائع لإسرائيل في أن تقوم بمجازرها ضد سكان القطاع، انطلاقا من أن الأمر دفاع عن النفس دون أدنى تفرقة بين المحتل والمحتلة أرضه، وبين المقاوم الشرعي والغاصب للحق التاريخي.

هل يصدمنا موقف جون كيري؟ بالقطع لا، فالرجل ربما وجد بصورة شخصية بداية في المزايدة على الموقف الإسرائيلي، آلية لغسل سمعته في مواجهة يهود أمريكا وإسرائيل، بعد أن لوثتها في تقدير هؤلاء وأولئك تصريحاته السابقة التي اعتبر فيها أن التعنت الإسرائيلي لجهة مفاوضات السلام يقود إسرائيل لان تضحى دولة عنصرية، وقد قامت الدنيا ولم تقعد حتى اعتذر، وها هو اليوم يكلل اعتذاراته بموقف دبلوماسي اقل ما يوصف به انه خادع ومراوغ.

كان على كيري قبل أن يبرر قصف غزة، أن يتساءل: هل كل ما يجري هو سيناريو مرتب ومعد له بإحكام لإفشال المساعي التي قادها طوال نحو ستة أشهر لاستئناف المسار التفاوضي للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ يدرك كيري تمام الإدراك أن نتانياهو قد جرب كافة وسائل التلاعب والتحايل، عطفا على التسويف للإفلات من دفع أثمان أية تسويات سلمية حقيقية تتطلب تنازلات إسرائيلية.

ويعلم كيري أيضا أن نتانياهو كان لا بد له من إيجاد مخرج ما، حتى ولو كان الهروب إلى الأمام ودفع بلاده إلى الحرب مع الفلسطينيين، ويمكنه أن يوسع مداها لتشمل اللبنانيين كذلك، فالرجل لا يرى في إسرائيل إلا دولة يهودية، وعلى هذا الأساس دعا ابو مازن للصعود على منصة الكنيست ليلقي خطبة يقر ويعترف فيها بهذا المفهوم العنصري.

يربط القارئ الحصيف بين تصريحات كيري وبين توجهات نتانياهو من جهة، وما صرح به مؤخرا مدير الموساد الإسرائيلي »تامير باردو« من أن »التهديد الأكبر لإسرائيل هو القضية الفلسطينية، وذلك حتى مع الأخذ في الاعتبار التطلعات النووية للنظام الإيراني«، وهي تصريحات تمثل الصنو والند لأخرى قال بها مدير الشاباك السابق »يوفال ديسكين«، الذي حذر العام الماضي من أن »الصراع المستمر مع الفلسطينيين يشكل خطرا وجوديا اكبر لإسرائيل من البرنامج النووي الإيراني«.

ما حدود مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية عن المأساة الفلسطينية من البدايات القديمة وحتى الساعة الملتهبة الآنية؟ من مبدأ الأمر كان العامل الديني بالغ القوة والفعالية في صوغ مواقف الرؤساء الأمريكيين من اليهود، الذين اعتبرهم أولئك الرؤساء »أسلافا روحيين« واعتبروا ديانتهم منبعا للدين.

على انه ليس من المقبول عقلا أن يكون العامل الديني على ما له من فعالية وأهمية، هو العامل الأوحد الذي جعل الصهيونية تسكن البيت الأبيض منذ ما قبل ظهور الصهيونية اليهودية بوقت طويل، فقد باشرت عوامل عديدة سياسية واقتصادية ومتعلقة بممارسة الحكم في سياق العملية الديمقراطية، كما باشرت ميول الرؤساء الأمريكيين واستعداداتهم الشخصية، فعلها في تشكيل وتوجيه، بل وتعديل المواقف التي ظل العامل الديني كامنا ومؤثرا في جذورها. ومن القديم إلى الحديث نتساءل مع المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل رشيد الخالدي؛ هل واشنطن وسيط مخادع في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ وهل قوضت أمريكا فرص السلام الحقيقية في الشرق الأوسط؟

ينطلق الخالدي من فرضية رئيسية فحواها أن الوساطة الأمريكية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم تتصف بالحيادية، بل عززت مكانة إسرائيل على حساب المطالب الفلسطينية، ومن ثم يبدو أن الدور الأمريكي معضلة في حد ذاته، وليس جزءا من التسوية العادية للصراع. فخلال التطورات التاريخية التي مرت بالارتباط الأمريكي بهذا الصراع، والتي بدأت بشكل حقيقي عقب الحرب العالمية الثانية، وخاصة في فترة حكم الرئيس الأسبق هاري ترومان، تجلى أن واشنطن تلعب دور المدافع عن إسرائيل أكثر من كونها الوسيط النزيه الساعي للسلام.

عبر صفحات هآرتس الإسرائيلية، يكتب الرئيس الأمريكي باراك اوباما منذ أيام قليلة، تحت عنوان »السلام هو الطريق الوحيد للأمن الحقيقي« يقول: »إن السلام الحقيقي والحيوي لا يوجد فقط في خطط الزعماء، بل في قلب الإسرائيليين والفلسطينيين جميعا، إن أمريكا تلتزم بهذا السلام تجاه إسرائيل لأنها أعظم وأقدم صديقة لها«.. هل هي مجرد عبارات جوفاء مليئة بالازدواج الأخلاقي كعادة الخطاب السياسي والإعلامي لأوباما؟

بعد نحو ستة أعوام له في البيت الأبيض، يتأكد أن مواقف اوباما مجرد مواقف شكلية تستند إلى جاذبية الخطاب الديني، دون أن تمتد إلى مضمون القضية، خاصة مع الضغوط التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية واللوبي اليهودي في الكونغرس، فضلا عن قوى اليمين المحافظ والجمهوريين المؤيدين لتل أبيب. مرة واحدة نجحت محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان ذلك في أوسلو، حيث جرت المحادثات بعيدا عن أعين وعقول الأمريكيين.. ماذا يريد هؤلاء من الفلسطينيين؟ ولماذا يتظاهرون بأنهم لا يعرفون الجواب عن السؤال الجوهري؛ لماذا هم مكروهون حول العالم العربي والإسلامي بنوع خاص؟