هل جاءت القمة التي عقدت في منتجع »فورتاليزا« السياحي شمال شرق البرازيل بين قادة دول مجموعة البريكس، لتتأكد حقيقة أننا بالفعل في »عالم ما بعد أميركا« كقطب وحيد متفرد بمقدرات السيطرة على الكرة الأرضية؟ المجموعة تضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا، وجميعها دون جدال دول ذات أوزان مهمة سياسيا واقتصاديا وعسكريا في القرن الحادي والعشرين.
ما هو الهدف الرئيسي لهذا التجمع؟ قطعا العمل على إيجاد عالم متعدد الأقطاب، والتشديد على أنه لا يمكن لقطب واحد أن ينفرد بالشؤون الخلافية الدولية دون بقية دول اللام.
فهل من دولة بعينها تلعب دور المحرك الرئيس في هذا التجمع؟ هناك روسيا ـ بوتين التي لديها اهتمام خاص بإنجاح هذا التجمع، وجل مرادها أولا التصدي للعزلة التي يفرضها الغربيون عليها، وخاصة بعد الأزمة الأوكرانية. وفي هذا السياق أيضا يأتي عقد قادة دول مجموعة البريكس قمة مشتركة في العاصمة البرازيلية، مع رؤساء دول أميركا الجنوبية، بمثابة التطلع بالأمل لإيجاد بدائل للنفوذ الأميركي المطلق في القارة اللاتينية.
أي طابع غلب على مقررات القمة الأخيرة؛ الاقتصاد أم السياسة أم العسكرة؟ قبل انطلاق أعمال القمة أشار المحلل السياسي الروسي دينيس تيورين، مدير نادي الأعمال في منظمة شنغهاي، إلى أنها قمة لمنظمة اقتصادية ذات طابع سياسي بحت، وهذا ما جرى بالفعل، فقد كان الاقتصاد هو الشغل الشاغل للمجتمعين هناك، وإن غلفته مسحة سياسية تمثلت في نموذج روسيا التي تعاني من عقوبات اقتصادية غربية.
كانت هناك اقتراحات الرئيس بوتين، وفي مقدمتها البحث عن مجموعة من التدابير العامة التي من شأنها منع المضايقات التي تتعرض لها البلدان التي لا تتوافق سياساتها مع بعض قرارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وإن لم يعنِ ذلك بالضرورة تأسيس حلف عسكري سياسي جديد.
والشاهد أنه إذا كان حديث الترتيبات والآليات الاقتصادية قد هيمن على مناقشات القمة، وبلورة رؤى جديدة تنزع عن واشنطن تفردها بالمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، فإن الإشارات السياسية التي أطلقها قادة الدول هناك، لا يمكن للعين أن تخطئ أن وراءها إرادة سياسية لتجمع جديد، يمكن أن يضحى لاحقا نواة لطرف قطبي مناوئ لواشنطن.
على سبيل المثال، أدانت دول البريكس النشاط الاستعماري الإسرائيلي غير المشروع في الأراضي الفلسطينية، ودعت إلى إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي بالطرق السلمية، وكذلك جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وإقامة دولة فلسطينية في حدود العام 1967.
والمثال يوضح إلى أي مدى توجد إرادة لخلق توازنات سياسية بين القوى الفاعلة في عالم جديد، يمكن أن نطلق عليه عالم ما بعد أميركا. على أن الانطلاقة الأوضح والأفعل لقمة بريكس هذا العام، اقتصادية دون شك، إذ أعلن خلال القمة التي تعتبر السادسة لدول المجموعة، عن تعزيز قدرتها على مواجهة السياسات السلبية لمؤسسات مالية دولية تسيطر عليها الإدارة الأميركية.
في هذا الإطار غير العادي والمثير، وقع قادة دول المجموعة على وثيقة لإنشاء بنك للتنمية برأسمال 100 مليار دولار، وبناء احتياطيات مالية تبلغ قيمتها أكثر من 100 مليار دولار أخرى، وذلك لمواجهة تأثير مؤسسات الإقراض الغربية، ولعدم الارتهان بشكل أكبر للدولار الأميركي.. ما الذي سيقدمه هذا البنك؟ سيقوم البنك الجديد بتقديم التمويل لمشروعات البنية التحتية والتنمية في دول »بريكس«، وعلى عكس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فإن كل دولة من دول بريكس لديها حصة على قدم المساواة في البنك، بغض النظر عن حجم الناتج المحلي الإجمالي.
والثابت أن روسيا تحديدا هي المحرك الرئيسي لقيام هذا البنك، الذي قال بوتين »إنه سيكون واحدا من المؤسسات المالية متعددة الأطراف الرئيسية للتنمية في هذا العالم، وسيكون المقر الرئيس له في شنغهاي«.
هل الأمر عالم ما بعد أميركا اقتصاديا أيضا؟ ذلك كذلك بالفعل، وهذا ما تبدى من رغبة دول BRICS صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، والتي تشكل مساحة دولها ربع إجمالي مساحة اليابس من الأرض، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الأرض، والرغبة هناك في تغيير الأوضاع الحالية، حيث النظام المالي العالمي يتعلق الآن بالعملة الأميركية، أي انه رهين بالسياسة النقدية الأميركية التي تتلاعب بالعالم اقتصاديا كيفما تشاء..
هل من مستقبل لتجمع دول البريكس؟ بحسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية، فإنه من المتوقع أن تنافس اقتصادات هذه الدول بحلول عام 2050، اقتصادات أغنى الدول في العالم حاليا، كما يتوقع أن تشكل هذه الدول حلفا أو ناديا سياسيا بينها مستقبلا.
أين حديث التعاون العسكري؟ لا يريد قادة المجموعة إظهار هذا الوجه من أوجه التعاون في هذا التوقيت علانية، لكنه قائم بالفعل والمناورات البحرية الروسية والهندية في المحيط الهادئ التي جرت الأيام الماضية، خير دليل على ذلك. إن رغبة دول البريكس الآن هي تجاوز عالم ما بعد أميركا اقتصاديا، والوقوف في وجه بطش واشنطن سياسيا، وللمستقبل أحاديث عسكرية أخرى، وفي جميعها تدور الدوائر لتفرز لنا بيقين شبه مطلق، عالما متعدد الأقطاب لما بعد أميركا.