رفض رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته نوري المالكي، التوقف عن المطالبة بولاية ثالثة كرئيس للحكومة العراقية، رغم رفض معظم التيارات السياسية العراقية لذلك، ورغم احتلال المسلحين ما يقارب ثلث مساحة العراق، وقد وصلت البلاد لأزمة حادة بسبب سياسته الفاشلة في إدارتها والصلاحيات المطلقة التي أعطاها لنفسه، فهو رئيس للوزراء ووزير للدفاع والداخلية ومسؤول عن الأمن القومي، فضلاً عن توجيهه للسياستين الخارجية والمالية.
ولم يستجب للطلبات الملحة للقوى السياسية العراقية النيابية وغير النيابية، بمن في ذلك المرجعيات الدينية الشيعية، التي ترى أن استمراره في منصبه يعني استمرار الأزمة والانقسامات في المجتمع العراقي.
وكان مبرر المالكي الوحيد أن الدستور العراقي يقضي بأن يكلف برئاسة الحكومة من تختاره أكبر مجموعة نيابية في المجلس النيابي العراقي، وحزب المالكي هو المجموعة الأكبر، مع أنه لا يملك أكثرية النصف زائداً واحداً، واعتبر هذا النص الدستوري مبرراً كافياً لرفض التنحي، ولاتهام القوى الأخرى بمخالفة الدستور والقانون مع الإرهابيين.
في الانتخابات العراقية الماضية كانت كتلة "العراقية" التي يرأسها إياد علاوي هي أكبر مجموعة نيابية في المجلس النيابي، وبالتالي وحسب الدستور، كان ينبغي أن تكلف بترشيح رئيس للحكومة، وهذا ما فعلته ورشحّت علاوي، إلا أن المالكي وبعض حلفائه الآخرين رفضوا هذا الترشيح، وتم اجتماع في أربيل ضم القوى النيابية العراقية كلها، واستجاب لطلب المالكي وحلفائه، ووافق على تكليفه برئاسة الحكومة بدلاً من علاوي، وذلك ضمن قرارات أخرى عديدة كانت بمثابة تسوية، وقد طبق المالكي من هذه القرارات قراراً واحداً فقط، هو تكليفه برئاسة الوزراء، أما بقية القرارات فقد أهملها كلياً، ولم يقل حينها إن الدستور يقضي بذلك.
يُلزم الدستور العراقي النواب بتكليف الحزب الذي يحصل على الأكثرية المطلقة بتشكيل الحكومة، أما ما عدا ذلك، أي إذا كانت كتلته أكبر الكتل ولم يحصل على هذه الأكثرية فيكون الأمر تنسيبياً. وعليه فحجة المالكي غير دستورية ومشروخة، وتنم عن استقتال لاستمرار تولي السلطة حتى لو أدى ذلك إلى دمار العراق، وهذا ما يحصل فعلاً.
لا نريد التعمق في الدستور العراقي، الذي اقترحه نوح فيلدمان بتكليف من بريمر حاكم العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وفيلدمان لمن لا يعرفه؛ يهودي صهيوني، ولذلك كان هذا الدستور وما زال مملوءاً بالألغام والثغرات، أقلها المحاصصة وتنحية مرجعية المواطنة جانبا، ومباركة المرجعيتين الطائفية والإثنية، وتثبيت ألغام بين مكونات الشعب العراقي الإثنية، وخاصة بين العرب والأكراد والتركمان والآشوريين وغيرهم، وكذلك بين الشيعة والسنة والمسيحيين واليزيديين. وكان دستوراً خطراً على النسيج الاجتماعي العراقي، ولكن هذا أمر آخر، إلا أن الملفت هو تفسير المالكي لهذا الدستور وتطبيقه بما يناسب مصالحه.
في واقع الأمر ليس هذا التفسير خاصية عراقية، بل هو شائع في معظم البلدان العربية، حيث يفسر الحاكم الدستور ويطبقه كما يريد، وبالتالي فإن معظم الدساتير العربية "مطاطة"، وتطبيقها كيفي، وتبتعد الصرامة والجدية عن تفسيرها، وهذا ما نلاحظه في معظم البلدان العربية، حيث تضاف للمواد الأساسية عادة عبارة "في حدود القانون"، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير (حيث تضاف عبارة في حدود القانون حتماً) وفي غيرها. والملاحظ أن هذا القانون المزعوم لا يصدر أساساً، وإن صدر فإنه يلغي المادة الدستورية، ويتشدق البعض بالدستور ومقتضيات الدستور عندما يناسبهم ذلك، ويتجاهلونه عندما يريدون مخالفته.
وهناك محاكم دستورية في معظم البلدان العربية، لكنها لا تحال إليها غالباً قضايا أساسية، فمثلاً منذ أربعين عاماً لم تحل للمحكمة الدستورية السورية العليا أي قضية، مع أن رئيس الدولة خالف الدستور عشرات المرات، أما عندما حان وقت استحقاق الانتخابات الرئاسية فقد أصر النظام على إجرائها، وكان المبرر والجواب لكل من يطالب بتأجيلها بسبب ظروف الأزمة السورية، هو أنها استحقاق دستوري لا تجوز مخالفته، مع أن الدستور نفسه كان يسمح بإجراءات أخرى كي لا تزداد الأزمة توتراً وتدهورا في سوريا، والأمر نفسه تكرر ويتكرر في بلدان عربية عديدة.
وإن لم يستطع الحاكم الالتفاف على الدستور، فما أسهل تعديله في البلدان العربية، ولا يحتاج هذا الأمر إلا لنصف ساعة لتصويت النواب، ويرافق ذلك عادة مديح استثنائي من أجهزة الإعلام الرسمية، التي تشيد بتعديل الدستور وتبين مآخذ الدستور المعدَّل، وكأنها كانت لا ترى هي والنظام السياسي الذي يوجهها هذه المآخذ.
لم يهتم المالكي بأخذ ظروف العراق وأزمته بعين الاعتبار، ولم يدرك الأخطاء التي سببها والتي كرست بل وعمقت الخلافات والصراعات الداخلية العراقية، ونسي حتى الدستور نفسه الذي يزعم الآن أنه يتمسك به، مما أدى إلى عدة كوارث أهمها الانقسامات الطائفية الحادة الحالية، الناتجة عن سلوك المالكي وانتفاضة فئات المهمشين باسم الدستور وتحت راية الدستور، وضم الأكراد لكركوك وحقول نفطها من طرف واحد، بعد أن تجاهل المالكي المادة 140 من الدستور، ولذلك حصل ما حصل وربما ستحصل أشياء أكثر، ودائماً تحت عباءة الدستور.
إن الدستور هو تعبير عن عقد اجتماعي تشارك في وضعه جميع فئات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعبر عن نفسها وحاجاتها ومصالحها ومطالبها بنصوص دستورية واضحة ومتكاملة، وأي عملية انتقائية لمواد الدستور إنما هي مخالفة للدستور نفسه، مهما جمّلها الحاكم.