سؤال صعب أرهق عقولاً كثيرة ومازال: كيف يمكن أن نصف علوم الدين من فقه وسنة وسيرة وشريعة؟ هل تخضع لنفس المناهج العلمية المطبقة في العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية، أم لها منهج مختلف لا يعترف بالمعايير العلمية الحديثة ويسير على نهج من سبقونا من أئمة وشيوخ ومفسرين عاشوا في الزمن القديم؟ أتصور أن الإجابة عن هذا السؤال مازالت حائرة بعيدة، أشبه بطائر رخ محلق في الفضاء الواسع لم يقدر أحد على اصطياده وإن اقترب منه عدد كبير من المفكرين، وإن غياب هذه الإجابة المقبولة من أغلبية المسلمين خصوصاً في العالم العربي، هو سبب رئيسي من أسباب أزمتهم الحالية التي اتخذت أشكالاً عنيفة وانقسامات تهدد دولهم تهديداً مباشراً، كما هو واضح من حجم الصراعات الدامية والخلافات في عشر دول عربية.
السؤال ليس سؤالاً أكاديمياً ولا ثقافياً، وإلا كان من السهل الوصول إلى إجابة مقنعة له حتى لو حامت حولها انتقادات، وإنما هو سؤال »حياتي«، أي يمس حياة كل المسلمين ومعيشتهم، ولهذا يلبس أقنعة متغيرة، كالصراع بين الأصالة والمعاصرة، تنقية التراث الديني من الموروثات الشعبية العالقة به، تجديد الخطاب الديني، وأي تجديد يلزمه منهج بحث.. الخ.
ولم تتوقف المعارك الفكرية بين من تصدوا للإجابة عليه، وأيضاً لم تتوقف الحرب الضروس على أرض الواقع بين تيارات ترجع إلى من سبقونا في كل شيء، وتيارات تحاول أن تؤسس مجتمعاً عصرياً بأفكار جديدة..
وما صنعه تنظيم داعش في العراق قبل أيام من رجم امرأة متهمة »بالزنى« حتى الموت، يكشف مدى عمق الأزمة، فهذه الجريمة من الجرائم التي يبدو إثباتها عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، لأنها تشترط شهادة شهود عدول رأوا الفعل الحرام رؤية مباشرة لا لبس فيها ولا شك فيها ولو بنسبة واحد في المليون، أو باعتراف صريح من الفاعلة، على أن يحاول القاضي أن يثنيها عن اعترافها وأن يجد لها مخرجاً بكل الوسائل، كما حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم مع »امرأة من غامد« جاءت إليه معترفة بأنها »فجرت«، وأصرت على موقفها رغم محاولات النبي معها، حتى رجمها بعد ما يزيد على عامين ونصف العام من اعترافها بسبب حملها »الحرام«.
لكن جماعة داعش رجمت فوراً ودون اعتراف ودون أخذ ورد، ودون شريك يحاسب هو أيضاً على فعلته، كما لو أنها زنت مع نفسها!
وإذا عدنا إلى قصة امرأة غامد وأخضعناها للمنهج العلمي في البحث، بمعنى من كان زوجها؟ ومن هو الرجل الذي زنا بها؟ وكيف تصرف زوجها ورضي أن تعيش حتى تلد له ولداً في الحرام؟ وما اسم الولد ولمن نُسب؟ وماذا كان رد فعل أهلها عند الاعتراف بجريمة شرف تحط من الكرامة وتسال فيها الدماء عند العرب؟ وهل يجوز أن نقبل القصة على علاتها دون تمحيص وفحص وقد وصلت إلينا شفاهة؟ هذا نموذج على سبيل المثال..
وقد تجدد البحث عن إجابة للسؤال الصعب، ودارت معركة حوله استمرت بضعة أسابيع، كان طرفها الأول الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصري، والدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف من ناحية ثانية، وبدأت بسلسلة مقالات من الدكتور جابر عصفور حول الخطاب الديني وتجديده.
وقطعاً تجديد الخطاب معناه تجديد منهج التفكير والاستقراء، لإحياء الاجتهاد برؤى عصرية تلتزم بمقاصد الشريعة الكلية، دون تفاصيل الأحداث التي وقعت في زمن غير زمننا وفي بيئة غير بيئتنا، فمقاصد الشريعة ممتدة في الزمان والمكان، لكن أحداث الماضي وحوادثه مرتبطة بزمن محدد وأماكن معينة وتفكير وثقافة وعلاقات ومصالح كانت سائدة وقتها.
الشريعة قواعد وقيم عليا دائمة، وقد يفك تجديد الخطاب الديني الاشتباك بين الدين والدولة، وهو الاشتباك الذي أخرج من عباءته كل جماعات الجهاد والتطرف الديني، تحت شعار براق هو »إحياء الخلافة الإسلامية« كما لو كانت الخلافة فرضاً يجب الالتزام به وإلا لا يصح إسلام المسلم.
والخطاب الديني ليس هو الدين ونصوصه المقدسة، وإنما ترجمة لفهم البشر لهذه النصوص المقدسة وتأويلها. ثم دخل الدكتور جابر عصفور على دور الأزهر وغيابه المؤثر عن الساحة في وقت كانت مصر في حاجة إليه ليوقف مد التطرف والمتطرفين، وهو الدور الذي حافظ عليه لقرون، ثم تكاسل عنه في الخمسين سنة الأخيرة.
ثم رد عليه الدكتور عباس شومان، وتوسع الحوار بدخول كتاب وشعراء وأساتذة جامعات، وانتقل إلى مسارات إضافية عن معنى الدولة المدنية والتنوير والعلمانية والحداثة وما بعد الحداثة وحرية الرأي والتعبير والإبداع، وكان طبيعياً أن تتسلل إلى الحوار ألفاظ قاسية، فالعلمانية والتنوير والحداثة تسبب أرقاً شديداً لرجال الدين، كما لو أنها تعني الكفر والإباحية والبعد عن الدين.
اشتد وطيس المعركة الفكرية وتعفرت أسنة الأقلام وتكسرت رماح الكلمات وعاد كل طرف إلى الضفة التي ينتمي إليها، دون صناعة »مساحة اتفاق« حول السؤال الصعب الذي مازال حائراً كطائر رخ في الفضاء الواسع.