هاجر معظم الآشوريين السوريين المسيحيين خلال السنوات العشرين الماضية إلى بلدان أوروبا، وخاصة إلى السويد، ومنذ بدء الانتفاضة السورية وما تبعها من عنف وتدمير، زادت هجرة المسيحيين السوريين من العرب وغير العرب، وكانت النسبة الكبرى منهم من المسيحيين العرب، تماماً كما هاجر المسيحيون العراقيون بعد تعرضهم لتفجيرات في كنائسهم، واغتيالات ومجازر متعددة لحقت بهم من أطراف مجهولة ومعلومة. وقد أقلقت هذه الهجرة المثقفين السوريين الحريصين على ثقافة بلاد الشام وتعدديتها الدينية والثقافية، كما أقلقت أوساط الفاتيكان وبعض الأوساط الأوروبية، كل لأسبابه.

ولا شك أن زيادة الهجرة من بلاد الشام تهدد وجود مسيحيي المشرق، وهم الأصل وحملة المسيحية وأهلها و»ملحها«، وخسارتهم هي خسارة لسوريا وللثقافة العربية، وللقومية العربية، ولكل من يعتبر المواطنة هي المرجعية الأساس في بلاد العرب، ولا يعترف بمرجعيات ما قبل الدولة، سواء منها الدينية أم الطائفية أم الإثنية أم غيرها، لأن هجرة المسيحيين تشكل دليلاً على فقدان التعايش بين الشرائح الاجتماعية في بلاد العرب، وعلى عدم توفر معايير الدولة الحديثة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية.

في العقد الأخير، تردد كثيراً تعبير الأقلية والأقليات في سوريا والعراق، إلى الدرجة التي وصلت فيها السياسة في كل من البلدين، إلى تطبيق المحاصصة السياسية، ولو بشكل غير رسمي، بين فئات المجتمع وشرائحه الدينية والمذهبية.

ولا شك أنه عندما تُذكر الأقليات فإنما يقع على رأسها المسيحيون بالدرجة الأولى، ثم أبناء الأديان والمذاهب الأخرى، أعني المذاهب الإسلامية، إضافة لبعض التجمعات القومية، وبالتالي يتفكك كل من المجتمعين السوري والعراقي إلى مكونات، منها الأكثريات والأقليات الدينية والمذهبية والقومية.

ولسوء الحظ لم يعد يُنظر للمجتمع في هذين البلدين كنسيج واحد موحد، مرجعيته الأساس هي مرجعية المواطنة، وإنما ينظر إليه حسب تعدد مكوناته وحجم هذه المكونات، وبناء عليه فإن سياسة كل من البلدين لا تبتعد عن هذا الواقع، فتصيغ نفسها على أساس مكونات المجتمع وتناقضاتها أو توافقاتها، تحالفها أو تخالفها. وفي ضوء ذلك كله، ينظر إلى المسيحيين العرب كأقلية دينية، ويتم تناسي تاريخهم وقوميتهم وعروبتهم وأصالة وجودهم ودورهم التاريخي الوطني، ومساهماتهم في الثقافة والإدارة والحياة عامة، ولأن أعدادهم قليلة فهم آخر من يحسب حسابهم.

تأثر المسيحيون في سوريا (وفي العراق أيضاً) بأمرين رئيسيين أولهما داخلي، إذ إنه في الواقع لم يتم التعامل معهم كمواطنين كاملي المواطنة يتمتعون بحق المساواة والمشاركة، أعني أن ليس لهم الحقوق نفسها التي للمسلمين، فليس لهم قانون أحوال شخصية خاص مثلاً في ضوء تعليمات دينهم، ولا ينالون حقوقهم في تولي بعض الوظائف العليا وفي المجالس التشريعية والوزارة وغيرها، رغم أنهم يتمتعون بحرية دينية ممتازة، ويمارسون شعائرهم بحرية، كما يبنون كنائسهم ويؤسسون جمعياتهم الدينية كما يريدون، وتحتفل إدارة الدولة ومؤسساتها معهم وتعطل بأعيادهم الدينية، ولم يعودوا يشهدون أي نظرة استعلاء من أحد، مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر وما قبل.

لكن الأهم الآن أنهم، بسبب الثورة والعنف والصراع السياسي وغير السياسي، والممارسات الإجرامية للمنظمات المتطرفة التي فرضت عليهم الجزية ونوع اللباس والتصرف والسلوك، وكأننا في زمن الإسلام الأول، مع أنهم يخدمون العلم (الخدمة الإلزامية) كغيرهم من المواطنين، ونحن نعلم أن الجزية كانت في زمن الإسلام الأول مقابل إعفائهم من الانخراط في جيوش الفتح.

وقد حاولت المنظمات المسلحة المتطرفة تطبيق أسوأ الأنظمة والممارسات عليهم، ولم تحترم خصوصيتهم ولا ثقافتهم الدينية التي احترمتها الدولة العربية الإسلامية منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولقرون طويلة لاحقة.

ولذلك أصبحوا يخشون الغد، ويخافون من اليوم التالي إذا سقط النظام، كما يرتعبون من حكم المنظمات المسلحة الإرهابية المحتمل، وعليه فهم يؤيدون أي معاد لهذه المنظمات من جهة، ويعملون بكل ما يملكون ليهاجروا من سوريا إلى أي بلد في العالم يضمن لهم الأمن والأمان من جهة أخرى.

أما الأمر الثاني الذي أثر في مواقف المسيحيين السياسية والإنسانية، فهو تقديم الأوروبيين إغراءات استقبالهم في بلدان أوروبا، بالتوازي مع المصاعب التي يواجهها المسيحيون في المشرق، ومساعدة المنظمات الإنسانية والجمعيات الدينية والخيرية التي تقدم لهم العون، مما يتمناه أي سوري يواجه ضائقة اقتصادية ويعيش تحت ظل نظام شمولي غير ديمقراطي، ومسلط عليه سيف الأمن والقمع والتهديد، فضلاً عن فقدان الثقة بالغد، ولا يصدق أن هذا الغد سيكون أفضل.

ولذلك سارع من استطاع من المسيحيين السوريين إلى الهجرة، ليس الآن فقط بل منذ نصف قرن، وهكذا بعد أن كانت نسبة المسيحيين في سوريا تتجاوز 15%، وقد تصل إلى 20% من عدد السكان، لم تعد تتجاوز الآن 5% حسب أكثر الإحصاءات تفاؤلاً.

ولعل معظم السوريين من مختلف الطوائف والشرائح والمكونات، كانوا، وما زالوا الآن، يتمنون قبولهم مهاجرين في أي بلد أوروبي، أمام الضنك الاقتصادي الذي يواجهونه، والقمع الأمني والبلطجة والفساد وغياب الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص، التي يعاني منها مجموع السوريين، فكيف بالمسيحيين منهم الذين يواجهون الصعوبات نفسها والهموم نفسها، فضلاً عن صعوبات خاصة بهم، والشعور بفقدان الأمن، وعدم الاطمئنان إلى الغد.

وقد استغلت أوساط بعينها الممارسات الحمقاء المتطرفة من قبل بعض المسلحين، لتزيد شعورهم بالخوف ويأسهم من مستقبل مرضٍ لهم ولأولادهم، مما أضعف موقف أكثرهم ارتباطاً بسوريا وحماساً لها.