إنكار نظرية المؤامرة يشبه إنكار تعاقب الليل والنهار، لكن من المستحيل أن تلحق الأذى والضعف بقوم أو أمة أو إنسان، إذا لم تجد أرضاً خصبة في أفكار هؤلاء القوم أو بنية هذه الأمة أو عقيدة هذا الإنسان، ولنا في قصة الخلق كما وردت في القرآن الكريم، العظة والعبرة.
فمنذ خلق الله آدم، وإبليس يتآمر عليه بالوسوسة لينحرف عن الطريق القويم ويرتكب المعصية، وكلف الله الإنسان بالعقل، ليحكم على أمور حياته العامة والخاصة، ويجنب نفسه مزالق السقوط في الهاوية.
ولا تكاد تخلو صفحة من تاريخ الإنسان من مؤامرة، فالتوسعات والغزوات لأوطان الآخرين تستهل فعلها القبيح بمؤامرة، وكم من مؤامرات جرت في قصور الحكام بين الإخوة والآباء والأبناء، أياً كانت ديانات أصحاب هذه القصور، من أباطرة الإغريق إلى قياصرة الرومان، من كسراوات الفرس إلى خلفاء المسلمين، وما أجهزة المخابرات الحديثة نفسها من تجسس وتجسس مضاد، إلا مؤامرات سياسية واقتصادية مستمرة.. أي حرب بوسائل "خلفية" على المصالح.
وبالقطع يتعرض المسلمون والعرب لمؤامرات منذ وقت طويل ضارب بجذوره في التاريخ، وهذا شيء طبيعي وعادي جداً، وليست ذريعة ولا سبباً لهذه الأحوال السيئة والتراجع الحضاري المخيف، الذي أصابهم بعد سقوط الدولة العباسية تحت سنابك خيل التتار، ولم تفلح الإمبراطورية العثمانية في صناعة حضارة ثقافية متقدمة، واكتفت بكونها حضارة عسكرية لا يذكر لها التاريخ اسم فيلسوف أو عالم أو مفكر كبير، واقتصر على ذكر الحكام وغزواتهم.
والسؤال الذي يجب أن نفك عقدته: لماذا تنجح المؤامرة عليهم دائماً في العصر الحديث، أو على الأقل في المائة سنة الأخيرة؟!
يمكن أن نأخذ مصر مثالاً جيداً لنعرف بعض جوانب الإجابة، خاصة وقد بدأت مصر رحلة التحديث والتقدم مع اليابان في أوائل القرن التاسع عشر، بل إن مصر تقدمت على اليابان في الخمسين سنة الأولى بقيادة واليها محمد علي باشا، إذ أسس أول جيش نظامي في الشرق كله، وأدخل المعارف والعلوم الحديثة، وأرسل البعثات العلمية لباريس ولندن، وأسس صناعات لم تكن معروفة، وطور طرق الري والزراعة..
باختصار، لم يترك شاردة ولا واردة في عصره دون أن يتمثلها، وكان من الطبيعي أن تتكالب عليه دول أوروبا و"تقصقص" ريش قوته وتعيده إلى حدود مصر مهزوماً.
لا نريد أن نفسر أسباب هزيمته العسكرية، فهي لا تعنينا في هذا المقام، وإنما ما يعنينا هو: لماذا لم تستمر مصر في دفعها الحضاري ولم تسطع أن تقفز في نموها إلى العالم الأول، وظلت عالقة في العالم الثالث حضارياً كحال أغلب المسلمين والعرب؟
باختصار، لأنها ظلت تعمل بـ"قيم التخلف" ولم تنتج منظومة قيم عصرية كالمعمول بها في الغرب المتقدم.
والقيم غير الأخلاق، الأخلاق جزء من القيم، والقيم تعبير متكامل عن الثقافة العامة؛ قيمة الوقت، والعمل، معايير اختيار القيادات، التفكير العلمي المنظم، إتقان الأداء في كل المهن، الاجتهاد والمثابرة، حرية التعبير، الشرف بمعناه الواسع وليس القاصر على الجسد، الابتكار، العمل الجماعي السلس.. الخ. وبالمناسبة، كل هذه القيم إسلامية، لكن لا يعمل بها أغلب المسلمين والعرب، هم يعملون بشكلها لا بجوهرها، يتحدثون عنها أكثر مما يتبعونها.
وقد انتقلت قيم التخلف من إهدار الوقت وادعاء العمل وعدم قبول الاختلاف، والصراع على كل صغيرة وكبيرة، والتعصب والتواكل والمحسوبية والواسطة ومعايير الولاء والطاعة.. الخ، مع تجربة محمد علي وعمل بها، ولكنها كانت متوارية خلف زخم حالة التحديث الجارية على قدم وساق، وخلال المعارك الدائرة جنوباً وشمالاً وشرقاً.
وحين سقط محمد علي عادت هذه القيم بقوة تفرض أحكامها، لأن التحديث الذي جرى أصاب شريحة رفيعة من المجتمع، وترك بقية المجتمع وهي الغالبية على حالها من العقل والتفكير والقيم القديمة.
أخشى كل الخشية أن أقول إن الفهم غير الصحيح لعامة المسلمين لدينهم، هو سبب ذيوع قيم التخلف حتى الآن، وهذا الفهم الخاطئ تدعمه وتسانده ميليشيات من الشيوخ والدعاة، يقتاتون على جهل الناس بصحيح الدين، فهو طريقهم الوحيد إلى اكتناز الثروة والنفوذ.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالإصلاح الثقافي يمكن أن يفتت تحالف الجهل، وهو الممنوع حدوثه بأي شكل، وزاد الطين بلة ظهور جماعات التطرف الديني، فهي تقطع الطريق على هذا الإصلاح باسم الحفاظ على الدين، وتفتت المسلمين إلى فصائل وتيارات؛ من إخوان وجهاد وجماعة إسلامية وقاعدة وداعش وسلفية جهادية ودولة الخلافة.. إلى آخر القائمة الجهنمية، التي سدت طريق التحديث والتقدم في المجتمعات التي استطاعت أن تسيطر عليها أو تلعب دوراً محورياً فيها.
وكان الغرب ذكياً ومدركاً أن هذه الجماعات سوف تتكفل بصناعة أخطار محلية داهمة من الشقاق والانكسار، وإذا كان الإسلام خطراً، فلنجعله خطراً يأكل بعضه بعضاً.
وقد كان.. في السودان والصومال واليمن وباكستان وأفغانستان ونيجيريا وليبيا وسوريا والعراق وفلسطين المحتلة، وهي الدول التي قويت فيها شوكة التيارات الدينية المتطرفة، وبدرجة أقل في مصر والجزائر ولبنان.. الخ.
باختصار؛ المؤامرة من الداخل، وكذلك النجاة منها أيضاً!