خطاب الملك.. نقاط على الحروف

خادم الحرمين الشريفين لا يلقي خطاباً للأمة العربية والإسلامية كل يوم، شأنه في ذلك شأن الكثير من الملوك والرؤساء، وإذا ما تحدث الملك فبالتأكيد هناك أمر جلل، وأن في الأفق غيوما سوداء، ووراء الأكمة ما وراءها.

ويمكن تلخيص خطاب الملك السعودي في كلمة واحدة »الإرهاب«، في إشارة واضحة منه إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجهه العالمان العربي والإسلامي هو الإرهاب المنظم والذي يتخذ أشكالا وصورا عدة.

فهناك إرهاب الدول ويتجسد فيما يمارسه مثلا الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين بكل صلف وتحدٍ صارخ للأعراف والقيم الإنسانية، ونقض واضح لكل المواثيق والاتفاقيات الدولية وسط صمت مخجل ومقزز من المجتمع الدولي.

وهناك إرهاب من نوع آخر هو إرهاب التنظميات المتشكلة حديثاً في بعض الدول التي تعاني من الاضطرابات كالعراق وسوريا وليبيا ومصر، و»داعش« تمثل أنموذجا.

إلا أن الإرهاب الأخطر من كل ما سبق، هو إرهاب الدول التي تدعم وتموّل هذه التنظيمات في الخفاء وفي نفس الوقت تحاول إيهام المجتمع الدولي أنها تتصدى لهذا النوع من الإرهاب لكن دون أدلة ملموسة على الأرض.

وأشار الملك السعودي في خطابه الأخير إلى أن هؤلاء الإرهابيين يفعلون أفعالهم باسم الدين، فيقتلون النفس التي حرم الله قتلها ويمثلون بها ويتباهون بنشر ذلك عبر وسائل الإعلام، كل ذلك باسم الدين والدين منهم براء، فشوهوا بذلك صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم وطغيانهم وإجرامهم.

فأصبح كل من لا يعرف الإسلام على حقيقته يظن أن ما يصدر من هؤلاء الخونة يعبر عن رسالة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، في إشارة واضحة وجلية لما يقوم به تنظيم »داعش« في العراق وما يقوم به تنظيم »الأخوان المسلمين« في مصر، وما تقوم به الكثير من التنظيمات الراديكالية في أوروبا.

فمثلاً خلال الشهرين الماضيين سادت وسائل الإعلام في بريطانيا تساؤلات حول تسلل الأفكار المتشددة إلى المدارس، بعد إجبار فتيات على الجلوس بالمقاعد الأخيرة داخل الصف، ورفع الآذان داخل فناء المدرسة، وقد احتدم الجدل في بريطانيا بعد نشر خطاب زعم أنه من راديكاليين إسلاميين يعبرون فيه عن رغبتهم في اختراق المدارس في مدينة بيرمنجهام وفرض رؤيتهم الإسلامية المتشددة.

فقد وصل خطاب بإمضاء (مواطن قلق) إلى مجلس المدينة وبعض المدارس بمدينة بيرمنجهام ثاني أكبر المدن في بريطانيا، وهو يتحدث عن تفاصيل خطة تحتوي على خمس نقاط حول كيفية الهيمنة على المدارس، مطلقا عليها اسم (عملية حصان طروادة).

وهي خطة سوف يؤدي نجاحها إلى قيام المدارس الحكومية والتي من المفترض أن تكون علمانية التوجه بتشجيع مناهج إسلامية في وجود هيئة كاملة من معلمين مسلمين، ونتيجة لما حدث فإن أطفال بيرمنجهام وغيرها من المدن التي تعيش بها مجتمعات مسلمة هم الخاسرون.

والأمر برمته يستهدف عكس رؤية سلبية عن المسلمين وفتح المجال لوصفهم بعدم احتمال الرأي الآخر ووصفهم بالراديكالية والرغبة في نقل الأفكار المتشددة لأطفالهم، وهو اتهام أرى أنه غير صائب وبشكل خاص في دولة اعتبرها منارة في قبول الآخر والاعتراف بحقوقه.

وقد تكون حادثة طرد مسيحيي الموصل من مناطقهم من قبل تنظيم داعش الإرهابي مثالا حيا على تشويه صورة الإسلام النقية، فلم يكن الإسلام في يوم من الأيام دين إرهاب ولا دين اضطهاد، فالدولة الإسلامية منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قدمت أمثلة زاهية على سماحة الإسلام والتعايش مع الأديان الأخرى، فالرسول زار جاره اليهودي.

وعاش الأقباط في مصر تحت حكم الخلافة الراشدة بكامل حقوقهم، وما موقف القبطي مع ابن عمرو بن العاص وشكواه عند أمير المؤمين عمر بن الخطاب إلا دليلا واضحا على عدالة الإسلام، وأنه دين الرحمة والتسامح، وأن رسوله نبي الرحمة كما قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

إن رسالة الملك عبدالله في خطابه واضحة، مفادها أن فتن الإرهاب المستشرية، واستغلال الدين لأغراض وقتية أنانية من قبل البعض، أدت إلى أن تقوى شوكة بعض الجماعات التي لا تمت للدين ولا للإسلام بصلة، حتى باتت تهدد منجزات الإسلام والمسلمين طوال قرون وقرون.

ولم يغفل خادم الحرمين الشريفين عن دور رجال الدين ومشايخ الأمة ذلك الدور الذي يفترض أن يكون حاسما في التصدي لهذه التيارات والجماعات والأفكار الملوثة المشوهة، لولا أن قطاعا كبيرا من أولئك الشيوخ آثروا الصمت أو برروا واستخدموا الخطاب الظلامي والفتنوي نفسه لتلك الجماعات.

كما كان الملك عبدالله حازما واضحا أيضا بأن النصر لن يكتب لهذه الجماعات مثل داعش وما شابهها وبأن من يستخدمونها ويمولونها سيكونون أول من يدفع ثمنها ويكتوي بنارها.

واختيار خادم الحرمين الشريفين الانتقال في خطابه من إرهاب الجماعات إلى إرهاب الدول، قاصدا إسرائيل دون مواربة، ومتهما إياها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، فللتشديد على أن أصل المشكلة واحد، وهو وجود دولة معتدية ظالمة تولد بجرائمها شتى أنواع الإرهاب والعنف، بيد أن مواجهة هذين النوعين من الإرهاب، إرهاب الأصل وإرهاب الفرع، ما كان ليستشري على نحو ما نرى ونشهد، لولا أساس ذلك كله وهو الفتن..

فلولاها لما وقفت الأمة ضعيفة مشتتة حائرة خائرة أمام إرهاب داعش وإرهاب إسرائيل ولما تجرأت هذه الأخيرة على خوض حربها اللا أخلاقية ضد الأطفال والمواطنين العزل في غزة، وبالقدر نفسه ينبه خطاب الملك إلى الأطراف الأخرى التي تعتقد ولو لحين أنها مستفيدة سياسيا من الدم العربي في فلسطين وفي العديد من الدول العربية الأخرى.

لقد قال الملك عبدالله كلمته التي لا بد أن تتبعها خطوات حاسمة وحازمة، تقول للعالم أجمع إن الدم العربي ليس رخيصا إلى هذه الدرجة، وأن الإسلام لن يكون مرة أخرى من يدفع الثمن في حروب الفتن والمصالح والإرهاب.

الأكثر مشاركة