للمرة الأولى بعد توليه منصب رئاسة الجمهورية، يتوجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى موسكو في زيارة تعزز الشراكة الاستراتيجية المصرية ـ الروسية في عهدها الجديد، بل يمكن القول إنها تقوي العلاقات العربية الروسية بشكل إجمالي.

ما دلالة زيارة السيسي إلى موسكو بعد أن اعتذر عن الذهاب إلى واشنطن لحضور القمة الإفريقية الأميركية الأسبوع الماضي؟ وهل يعني ذلك أن مصر تلعب على المتناقضات؟ من تابع زيارة رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب إلى واشنطن، يدرك أن هناك تحسناً واضحاً في علاقات البلدين، وإن بقيت ملفات مهمة في حاجة إلى جهد كبير حتى تعود العلاقات إلى ما كانت عليه قبل 30 يونيو بشكل خاص.

ولعل أفضل من أجاب عن سؤال: هل القاهرة ترتحل إلى موسكو عوضاً عن واشنطن؟ هو وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي، الذي اعتبر أن «وزن روسيا أكبر من أن تكون بديلاً لأحد».

على أن تلك الرؤية لا تعني أنه ليست هناك تطورات بعينها في الشرق الأوسط تزعج الناظر، والتهديدات المتسارعة التي تدق الأبواب والتي وصفت بـ«استراتيجية الفوضى المصطنعة»، برهان على ذلك.

بمباشرة مطلقة، ودون تهوين أو تهويل، يتوجه السيسي إلى موسكو بعد زيارة استراتيجية للمملكة العربية السعودية، حيث التقى خادم الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.

والمملكة تعي جيداً الأخطار المحدقة بها وببقية منطقة الخليج العربي، من طاعون القرن العشرين، ذلك الإرهاب الأسود الذي يهدد المنطقة، لا سيما في ظل سرعة سيطرته المريبة على العديد من المناطق والمدن المهمة في العراق وسوريا، ومحاولاته الأخيرة في لبنان، عطفاً على نظرته المستقبلية لليبيا ومصر وبقية العالم العربي.

هل الأمر تحول نوعي في تحالفات المنطقة؟ كانت واشنطن حتى وقت قريب الأقرب إلى الرياض والقاهرة، لكن الضبابية التي تلف توجهات إدارة أوباما، جعلت ثقة العرب تهتز كثيراً في مصداقيتها، وخاصة مصر ودول الخليج العربية، كما أن هناك علامات استفهام حائرة حول علاقة واشنطن وإسرائيل بتنظيم «داعش»، تلقي بظلال من الشكوك على التحالفات القديمة، وتستوجب البحث عن تحالفات جديدة.

وقد يتساءل البعض: كيف يستقيم هذا الحديث وطائرات واشنطن بدأت قصف قوات داعش؟ في الأمر خدعة لا يرتاح إليها صاحب العقل السديد، فقد تكلم ذات مرة الجنرال دافيد بترايوس، وكان المسؤول المباشر عن شمال العراق عقب غزوه في 2003، قائلاً إن بلاده احتفظت بكركوك للأكراد.

ما يعني أن مخطط تقسيم العراق كان ولا يزال أميركياً بامتياز، وأن الضربات التي تلقتها داعش كانت بسبب تطاولها على إربيل المنطقة المحرمة عليها، أما بقية الأراضي والمدن العراقية فمستباحة.

ليس يسيراً التنبؤ بما ستسفر عنه زيارة السيسي لموسكو ولا محادثاته مع الرئيس بوتين، غير أن ما يلفت النظر هو المصلحة المشتركة العربية الروسية في مواجهة المخططات الجهنمية الأميركية، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط والخليج العربي.

ويذهب السيسي إلى موسكو كشخص مرحب به بشكل غير مسبوق منذ أيام الزعيم جمال عبد الناصر، وهنا يعتقد أليكس مالاشينكو الرئيس المشارك لبرنامج «الدين والتجمع والأمن» لدى مركز كارنيجي في موسكو، أن إيديولوجية السيسي ونظامه ذا الطبيعة العلمانية، وكونه شكلاً من أشكال الفكر الناصري في طبعة جديدة، كلها أمور تجعله قريباً من النخب الروسية الفاعلة.

ومن بين تلك المؤسسات التي رحبت بالسيسي وتدعمه أدبياً ومعنوياً، المؤسسة الكنسية الروسية، والتي حافظت للروس على إيمانهم وعقيدتهم رغم 70 سنة من المواجهة مع الإلحاد الشيوعي، وخطاب البطريرك الروسي كيريل لتهنئة السيسي بفوزه بالرئاسة، خير شاهد على ذلك.

حتماً ستكون هناك ملفات مصرية استراتيجية عدة تحتاج فيها القاهرة موسكو، وفي مقدمتها التعاون في مجال الطاقة وبناء مفاعل الضبعة النووي، وهناك أحاديث الصفقات العسكرية، لا سيما في ضوء استمرار التلكؤ الأميركي في تقديم المساعدات العسكرية المعتادة لمصر.

لكن على الجانب الآخر هناك أيضاً فرص مهمة جداً لروسيا عبر البوابة المصرية، وخاصة في شمال إفريقيا، والوضع في ليبيا يدعو لتعاون مصري روسي بنوع خاص، فمصر لا تحتمل قيام دولة داعشية على حدودها، وموسكو تريد استرجاع وضعها في ليبيا في ما يخص حقول الغاز والنفط وتعاونها مع الليبيين الذي دام لعقود طوال.

كما أن مصر العائدة إلى إفريقيا بقوة، تستطيع أن تكون قيمة مضافة في القارة السمراء لدول البريكس التي تتزعمها روسيا.

هل كان هانتنغتون على خطأ؟ السيسي الزعيم المصري المسلم المعتدل يمد يد مصر للتحالف مع بوتين القيصري ذي الأصول الأرثوذكسية السلافية، في وجه أطماع أميركا البروتستنتية الأنجلو سكسونية.. العالم يتشكل من جديد، ما بعد هانتنغتون وأوباما.