أبدى معظم السلطات العربية تخوفا من نشوء منظمات إرهابية في بلادها أو جوارها، ومن توسعها وتطور أهدافها وأساليبها، انطلاقاً من أن هذه المنظمات ضالة ومضلّلة، جاهلة بالدين الإسلامي مضموناً وروحاً وصحيحاً وأهدافاً، ومع ذلك تحاول خطفه وتفسيره كما يحلو لها، إلى الدرجة التي توحي بأنها استكملت بناء إسلام جديد، يعتمد على العنف والقتل والإرهاب، ويجافي التسامح والعدالة واحترام حياة الإنسان وملكيته وإنسانيته التي نادى بها الإسلام، وتتجاهل تعاليم الدين المجيدة وتطبيقاته التي طورت الحضارة الإنسانية وأغنت تاريخها، وتعتمد على المشكوك في صحته وصوابه من اجتهادات فقهية لم تكن يوماً محط إجماع المسلمين أو قبولهم بصوابيتها، فضلاً عن أن معظم المنتمين إلى هذه المنظمات هم في الأصل بعيدون عن الدين والتدين وجهلة بهما، غير متعلمين، وأحياناً أمّيون وعاطلون عن العمل، وجدوا في هذه المنظمات ضالتهم، إذ يسترزقون من السلب والنهب والمصادرة، ويتمتعون بالسلطة والتحكم في رقاب العباد وإدارة المجتمعات التي يسيطرون عليها، ويروون غرائزهم العنفية بالقتل متعدد الأنواع والأشكال.
وعلى أية حال، ترى السلطات ومعظم الشعوب العربية أن هذه المنظمات خارجة عن الإسلام الصحيح وترتكب الكبائر باسمه، ولا تفرق بين الرئيسي والثانوي، وتشكّل خطراً حقيقياً على المجتمعات العربية والإسلامية حاضراً ومستقبلاً، ولذلك تنبغي مواجهتها والقضاء عليها وعلى تنظيماتها وإرهابها.
والأمر الملحّ في مجال محاربة الإرهاب، هو كيف تتم محاربته وبأي وسيلة وأي كيفية، خاصة أن المنظمات الإرهابية ترفع شعارات إسلامية تحاول بها خداع فئات شعبية عديدة، وبعد أن اختلط حابل الإرهاب بنابل الدفاع عن الدين!
وفي هذا المجال يرى بعض السلطات العربية، إن لم نقل معظمها، أن محاربة الإرهاب تتم من خلال أسلوبه نفسه، (ويعتقدون أن الدواء من الداء نفسه)، أي العنف والملاحقة والاعتقال واستخدام أقصى درجات القوة، وتجفيف المساعدات المالية التي تحصل عليها المنظمات الإرهابية، والمقدمة من الذين لا يزالون مخدوعين بها وبأهدافها، حتى أصبح بعضها غنياً جداً، وامتلأت صناديقه بالمال من العملات الصعبة والسهلة، سواء بسبب التبرعات من المخدوعين، أم بسبب الأموال التي استولت عليها هذه المنظمات نتيجة عملياتها الإرهابية، والقضاء على سلاحها الذي غنمته أساساً من التنظيمات العسكرية النظامية في البلدان التي تعمل فيها، أو اشترته بطرائق ملتوية من أسلحة الجيوش في بعض البلدان، حتى غدت تملك مختلف أصناف الأسلحة باستثناء الطائرات المقاتلة.
إن هذا الأسلوب لا يجدي نفعاً في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ولذلك فقد زاد عدد هذه المنظمات، وتكاثر عدد المنتسبين إليها، واتسعت المناطق التي تهيمن عليها، ونبتت كالفطر في كل مكان، وذلك بسبب فشل الأسلوب الذي يعتمد أساساً على العنف والقوة العسكرية بالدرجة الأولى والرئيسة، لمواجهة الإرهاب وتنظيماته.
تقتضي محاربة الإرهاب اتباع أساليب أخرى تختلف جذرياً عن هذا الأسلوب، وتهتم أساساً بتشكيل وعي جديد للدين، وفهم جديد لصحيحه وللتنزيل الحكيم، والحلال والحرام، وعديد من القيم السائدة، وتصحيح الممارسات التي شوهت الإسلام نفسه، لأنها لا تخلو من الفهم الخاطئ للدين، ومن التطرف، بسبب الثقافة السائدة في بعض المجتمعات العربية، ورفض تنقية الفقه مما لحق به من شوائب، والإصرار على الجمود والاكتفاء بما جاء به الأولون، واستمرار اعتبار الإبداع ضلالة والاجتهاد زندقة، حتى كادت شرائح واسعة من المسلمين تقتنع بأن هذه المنظمات تعمل فعلاً للحفاظ على الإسلام.
ولا شك أن الأساليب المتعددة الوسائل والأهداف المتعلقة بالوعي والثقافة والدين والفضيلة والقيم العليا، والمعتمدة على التحديث والحداثة والاجتهاد، والمحافظة على صحيح الدين وجوهره، لا تشويهه بحجة حمايته، هي وحدها القادرة على تجفيف منابع الإرهاب ودحر الإرهابيين، وهذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها الرصاصة ولا البندقية ولا المدفع ولا حتى الطائرة المقاتلة، ومن ثم لا يكفي أن ننصح الناس ونحذرهم من الإرهاب، لنتفادى مخاطر هذه المنظمات وشرورها.
إن تجفيف منابع الإرهاب على هذا النحو، هو الأسلوب الوحيد الذي يخلّص العرب والمسلمين من منظماته ومن شروره، ولا تنفع التحذيرات في هذا الشأن ولا النصائح، فلا بد من برنامج ثقافي شامل، وتربية حقيقية وجدية تسهم في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، وتؤسس ثقافة صلبة متماسكة عميقة، قادرة على رفض الإرهاب ودحره.