لم يعد الأمر محض تخمينات أو توقعات، لقد اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما بالواقع الجديد في الشرق الأوسط والعالم العربي، لكنه اعتراف مزور منحول، يدخل في عداد ما أشرنا إليه مرات عدة من قبل، بوصفه تنبؤات تسعى إلى تحقيق ذاتها، أي خططاً ومؤامرات أميركية واضحة وفاضحة، لرسم شرق أوسط جديد يكون بدوره مقدمة وطليعة العالم الجديد الذي تريده واشنطن.
قبل بضعة أيام، وفي مقابلة له مع صحيفة نيويورك تايمز، أقر أوباما بأن هناك جديداً يتشكل في الشرق الأوسط، وأضاف: ما نراه في الشرق الأوسط وأجزاء من شمال إفريقيا، هو أمر يعود إلى الحرب العالمية الأولى وبدأ ينهار، لقد بدأ انهيار حدود الدولة في العراق وسوريا تحت القشرة الدينية لخلافة الدولة الإسلامية، لكنه لن يتوقف عند هذا الحد».
إذن، التقرير الذي نشرته الصحيفة الأميركية ذاتها قبل بضعة أشهر، ويحمل صوراً وخرائط لمنطقة الشرق الأوسط المقسمة، لم يعد إلا حقيقة، وفكرة تحول خمس دول إلى أربع عشرة دولة إلا واقعاً.
يحيل أوباما الأمر برمته إلى التيارات الإسلامية الجهادية في الحاضر، وإلى الاستعمار في الماضي، وعنده أن تلك الجماعات المتشددة ترفض ما يطلق عليه الحدود القائمة بين العراق وسوريا، الحدود المصطنعة بحسب تعبيره، والتي وضعتها القوى الاستعمارية بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو عام 1916.. هل نحن في حاجة بعد إلى شهود للتأكيد على النوايا الأميركية الحقيقية للمنطقة؟
يحاول أوباما وأبواقه المختلفة، الترويج لبضاعة سايكس ـ بيكو ثانية، من خلال التأكيد على طهرانية الموقف الأميركي الداعم للأمم والشعوب وحقها في تقرير مصيرها، فيذهب إلى أن ترسيم حدود دول العالم العربي وشمال إفريقيا العربية، تم من قبل القوى الاستعمارية ومن دون إرادة أو تشاور مع سكان المنطقة، وتسليمها لاحقاً لحكام حلفاء لهم لا لشعوبهم.
هل تحمل رؤية أوباما السم في العسل للشرق الأوسط بنوع خاص؟ ذلك كذلك بالفعل، إذ يأخذ من فكرة التشاور مع سكان الدول تكئة لتنفيذ ما يتطلع إليه من مخططات التقسيم، عبر عملائه شرقاً وعرباً، لا غرباً.
ويتساءل المرء؛ هل ما جرى في السنوات الأربع المنصرمة وأطلق عليه الربيع العربي، كان تشاوراً حقيقياً مع سكان المنطقة أم محاولات خبيثة لإيصال التيارات الأصولية المتحالفة أبداً ودوماً مع الصهيونية الخبيثة، لخدمة الرجل الأبيض أوروبياً كان أم أمريكياً؟ هل تشاور أوباما مع المسيحيين العرب في سوريا والعراق وفلسطين، ومع الايزيدين وغيرهم من سكان المنطقة الذين يلقون اليوم حتفهم عطشاً وجوعاً، أم أن تشاوره فقط يتوقف عند حدود داعش وخليفتها المزيف، الذي أظهرته شاشات التلفزة الأميركية في اجتماع تنسيقي مع جون ماكين السيناتور الأميركي المرشح للرئاسة سابقا؟!
حاول أوباما خلال الأيام الماضية حفظ ماء وجهه أمام شعبه والعالم، عبر ضربات جوية لقوات داعش، لكن الحقيقة هي أنها كانت عقاباً لها لخروجها على النص، أي اقترابها من حدود كردستان، وليس لوقف تنظيم الدولة الإسلامية، ولا لتغيير ساحة القتال.
مخطط أوباما للتقسيم، هو مخطط السياسات الأميركية التي لا بد أن يسير على دربها أي رئيس، وترسم خطوطها كما تنسج خيوطها الأطراف الخفية المحركة للإدارات الأميركية، أمس واليوم وغداً.
ولا يعدم أوباما بعض الأصوات العربية الأميركية التي تزيف الحقائق، فقد كتب أحدهم على سبيل المثال من كلية بوسطن يقول: «إن التبشير بنهاية سايكس ـ بيكو في عصرنا الحالي، قد يكون وسيلة للإصغاء إلى التاريخ، بل ربما يكون أيضاً وسيلة أكثر عدلاً وإنسانية لإدارة التنوع العرقي والديني، ليس فقط في سوريا والعراق، ولكن أيضاً في جميع أنحاء الشرق الأدنى المشرقي».
هل يختلف هذا النسق كثيراً عن ما دعت إليه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس من قبل وسمته «الفوضى الخلاقة»؟، المؤكد أن التبشير غير المحمود والفوضى الممجوجة، هدفهما الأبعد هو خلق عالم شرق أوسطي جديد، يحقق بعض مصالح الإمبراطورية الأميركية المنفلتة، حتى ولو كان ذلك عبر التحكم والتلاعب بأطراف الإسلام السياسي، بكافة درجاته وألوانه الجهادية والفكرية، ويفوت واشنطن من جديد الثمن الذي يمكن لها أن تدفعه، كما جرى من قبل في نيويورك وواشنطن عام 2001، من جراء إطلاق الجِنِّي من القمقم.
هل «واشنطن أوباما» مصممة على دخول الشرق الأوسط عصر الانتروبي؟ يحدثنا البروفيسور «اندال شويلر» أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوهايو الأميركية، عبر العدد الأخير من مجلة «فورين افيرز»، عن الانتروبي كمفهوم علمي يقيس الفوضى، فكلما كان الانتروبي أكثر ارتفاعاً، ازدادت الفوضى، والفوضى تحديداً ما سينتج عن السياسات الأميركية الهوجاء في الشرق الأوسط، فوضى عارمة لن تقدر معها واشنطن في زمن العولمة على الاحتماء أو الاختباء وراء الأطلسي.
إنه زمن العوالم السيبرانية الكونية، والذي يتوجب فيه على واشنطن أن تدفع، راضية أو مرغمة، ثمن رغبتها الجامحة في لعب دور شرطي العالم، عبر إطلاق الفوضى في كافة أرجائه، من حدود روسيا القيصرية وصولاً إلى الشرق الأوسط الحزين.