ثمة جرائم يقف المرء أمامها مذهولًا، يضرب أخماساً بأسداس، تبدو بلا معنى أو سبب منطقي أو دوافع عاتية، ويسأل: هل هذا خلل في الطبيعة الإنسانية أم خلل في البيئة المحيطة بالفاعل؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة بالمرة.
ولو عدنا إلى أول جريمة إنسانية، هل فيكم من يعرف من الذي علم الأخ سفك دم أخيه؟ وكيف واتته فكرة القتل البشعة ولم تكن هناك جريمة قبله يمشى على خطاها؟ والقتل في عرف علماء النفس هو لحظة جنون مؤقت، يفقد فيها القاتل عقله ويتصرف بوحشية نابعة من غريزته ومشاعر الحقد المسيطرة عليه، دون كوابح من قيم أو أخلاق أو دين..
فماذا عن أم تقتل أولادها ومشاعر الحب والرحمة هي المسيطرة عليها؟ هل المرض النفسي أو العقلي يفسر هذا النوع من القتل رحمة بالضحايا؟
بالقطع، الإنسان هو أعقد ألغاز الكون وسيظل كذلك، وفي مدينة الإسكندرية وقعت هذه الجريمة، وهي تأخذ شكلاً طلسمياً مركباً يصعب فكه والدخول إلى زواياه وفهم أسراره، فكيف نفسر أن تذبح أم طفليها الصغيرين دون سبب؟ أو هكذا تبدو الجريمة..
لم تعرف الشرطة بأمر الجريمة إلا من الأم نفسها، كان الوقت بعد الظهر حين دخلت سيدة محجبة في ملابس سوداء إلى قسم المنتزه في الإسكندرية، وهي تصرخ: أولادي قتلوهم.. أولادي ذبحوهم. حاول الضابط المناوب أن يهدئ من روعها حتى يفهم سر عبارتها، فلم يفلح..
فسألها: أين هم؟ قالت: جثثهم في البيت. ونزل ضابط المباحث الجنائية وصحب السيدة إلى شقتها، فوجد صبياً ملقى على وجه بأرضية الحمام مذبوحاً من رقبته، وفي الناحية الأخرى ترقد جثة أخته بالطريقة نفسها على أرضية المطبخ! سألها الضابط: كيف عثرت عليهما؟ قالت: خرجت أشتري بعض حاجات البيت وعدت فوجدتهما مقتولين.
الأم في الثالثة والأربعين من عمرها، كانت تعمل مدرسة، ولحقت بقطار الزواج قبل محطته الأخيرة وهي في الثلاثين، مع مهندس كهرباء يكبرها بست سنوات، ويبدو أنه لم يفكر في الزواج إلا بعد أن عاد من هجرة مؤقتة في دولة خليجية كون فيها «قرشين» ليفتح بيتاً.
زواج تقليدي يسميه المصريون زواج صالونات، أي دون سابق معرفة أو ارتباط! وحين أنجبت بنتين وولداً، تركت عملها في المدرسة وتفرغت لأولادها، ومصادفة هي التي أنقذت البنت الكبرى من القتل، وعمرها 12 عاماً، إذ خرجت لزيارة جدتها في صباح ذلك اليوم المشؤوم، بعد أن طلبتها الجدة بالتليفون. وكان الأب في عمله حين انهالت عليه المكالمات التليفونية من الجيران: احضر فوراً.
أدرك الأب أن ثمة مصيبة في انتظاره، لكن لم يتخيل مطلقاً أن اثنين من أولاده قد ذُبحا.
سأل ضابط الشرطة الأم عشرات الأسئلة، ولم يستدل منها على ما يشير إلى المجرم المتجرد من إنسانيته، خاصة أن باب الشقة لم يكن مكسوراً، أي أن القاتل لم يدخل إلى الشقة عنوة.
واستجوبت الشرطة الأب عن أعداء له، فأصر على عدم وجود هؤلاء الأعداء، فلا سبب عنده لعداوة تنتهي بالقتل! وواجهت الشرطة معضلة أم تبدو مثالية، هجرت عملها من أجل تربية أولادها، وأب حسن السمعة بلا عداوات، وطفلين مذبوحين بطريقة توحي بالانتقام، فمن يكون الفاعل؟! برقت فكرة في ذهن ضابط المباحث، صحيح أن الأم تبكي وتولول وفاقدة القدرة على الكلام، لكن في بكائها وولولتها شيئاً غير طبيعي؛ العيون جامدة، والملامح حادة ترسمها عظام الوجه بقسوة..
وصبر الضابط يومين أو ثلاثة، ثم استدعى الأم إلى القسم لاستكمال التحقيقات، وظل يرهقها بأسئلة مباشرة، كما لو أنه يملك دليلاً على جريمتها، وفجأة قالت الأم ببرود لا يقل عن برودة لوح ثلج في عز شتاء: نعم أنا القاتلة!
لم يصدق الضابط نفسه، وكان تصوره المبدئي «أن الزوجة ربما كانت على علاقة بشخص قطعت علاقتها به فانتقم منها.. وياما حكايات من هذا النوع في الدنيا عن نساء يستحيل أن نشك فيهن! وسألها: طيب..
لماذا؟! أجابت الأم: إراحتهم من متاعب الدنيا، فالحياة صعبة والناس بقت وحشة جداً وعيالي لن يتحملوا! روت الأم كيف قتلت الطفلين»: «طلبت من ابني يوسف (10 سنوات) أن يرتب حجرته فرفض، لأنني لم أوافق على ذهابه للبحر، فضربته، فقاوم، جن جنوني فجررته من رقبته، خربش وجهي، ظللت أسحبه على الأرض وأخذت سكيناً من المطبخ وضربته في رقبته، جرت ابنتي (5 سنوات) صارخة: ماما..
ماما، فضربتها بالسكينة لتسكت! غسلت السكين، لبست ملابسي وخرجت إلى الشارع وعدت بعد ساعتين..
لم يصدق الأب الرواية ولا الاعترافات، وما زال، فهم مستقرون لا يعيشون في فقر، والأولاد في مدارس خاصة راقية، والأم تعيش في بحبوحة نسبية! هل ما حدث في مصر بعد 25 يناير من تظاهرات وعنف وانفلات أمنى، له دور في هذه الجريمة؟ بالقطع ستظل هذه الجريمة لغزاً يعادل لغز الإنسان نفسه، بالتغيرات التي تنتابه وتحوله من حالة إلى حالة مختلفة تماماً.