العدوان الإسرائيلي.. أبعاد وتداعيات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يُفيد الندم ولا الاعتراف بالأخطاء أو أفكارها، أو على الأقل من غير المناسب فتح صفحة المراجعة والنقد واستخراج الدروس والعبر، طالما أن العدوان الإسرائيلي متواصل منذ السابع من يوليو المنصرم، وتداعياته السياسية بعيدة المدى وقريبها لم تتبلور بعد.

وبكل القياسات والمعايير، فإن هذا العدوان الإجرامي البشع على قطاع غزة، هو الأطول في تاريخ المجابهات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والأكثر دموية، مما ينفي عن دوافعه وأسبابه وأهدافه صفة اللحظية أو المجابهة التكتيكية، أو إرجاعها إلى الأفعال وردود الأفعال.

وهذا يعني أن هذه المجابهة ترتقي في معرفة أبعادها إلى مستوى الضرورة التي اجتمعت لها كل أسباب الانفجار، وأن توقف هذه المجابهة مرهون بمدى نضج الظروف لإنتاج تسوية مناسبة، تتحقق فيها جملة من المتغيرات المطلوبة لتحضير الميدان من أجل معاودة البحث والتفاوض السياسي.

خلال العدوان الدموي، وقعت أخطاء في الأداء السياسي الفلسطيني، حين جرى البحث عن أطراف أخرى بتجاوز مصر، سعياً وراء تحقيق المطالب الفلسطينية المحقة، وجرى لبعض الوقت استفراد فصائلي بالتعامل مع الملف.

كان الأداء المدهش الذي قدمته المقاومة ميدانياً، سبباً في انتعاش أوهام تتجاوز الضرورات الجيوسياسية، فكان لا بد أن يدفع الشعب الفلسطيني ثمناً إضافياً لا ضرورة لدفعه.

وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة رفعت يدها قليلاً عن إسرائيل، وربما أرادت أن تشعر القيادة السياسية الإسرائيلية بالندم إزاء سلوكها الذي أدى إلى فشل المبادرة الأميركية للسلام.

ومن ناحية أخرى، بدا وكأن الولايات المتحدة لا تزال تراهن على جماعة الإخوان المسلمين، وعلى دور لتركيا وقطر، وذلك تعبيراً عن عدم رضاها عن التغيير الذي شهدته وتشهده مصر، وكمحاولة اعتراضية لمحاصرة وتحجيم الدور المصري الإقليمي.

غير أن الجغرافيا السياسية عادت لتفرض استحقاقاتها، حيث لم يعد في الميدان سوى المبادرة المصرية.

فمصر ليست فقط الدولة العربية الأكبر والأقوى، ولا تستمد تأثيرها من جوارها المباشر مع إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنما لأن مصر تتمتع بدور الشريك الفاعل، فهي أهم دولة بعد الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل التي تشترك معها في اتفاقية كامب ديفيد، وغزة بالنسبة لمصر امتداد حيوي للأمن القومي المصري، وهذا يجعل مصر ممراً إجبارياً لأية مساعٍ سياسية تستهدف التأثير.

العودة إلى مصر ومبادرتها، رغم فشل المفاوضات التي جرت على مدار أيام التهدئة الثلاثة عشر، لا تكتمل إلا بإدراك ضرورة أخرى ليست أقل أهمية، وتتمثل في الحاجة للانخراط الفصائلي ضمن إطار الشرعية الوطنية الفلسطينية، التي كان أبرز معالمها تشكيل وفد وطني موحد لمتابعة ملف المفاوضات.

ولكن حتى يكتمل المشهد السياسي، وتندفع الأوضاع نحو توفر الجاهزية لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، للذهاب بمرونة كافية نحو المفاوضات السياسية، كان لا بد من استيعاب الحراك الميداني والسياسي في المنطقة، في إطار رؤية الفاعلين في المجتمع الدولي، ولذلك كان من اللافت أن يظل الحراك الدولي سلبياً.

وأن يجتمع مجلس الأمن مرتين، يكتفي خلالهما بإصدار بيانات غير ملزمة، إلى أن تنضج الظروف لكي يجتمع مرة ثالثة على مشروع قرار تقدمه فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ينطوي على قدر من الإلزام، بوقف إطلاق نار دائم وتهيئة الظروف لعودة الأطراف إلى مفاوضات مجدية في القاهرة.

خلال مجريات العدوان والمجابهة، كان أكثر ما تكرهه وترفضه إسرائيل، هو وجود وفد وطني فلسطيني موحد، لأن مثل هذا الوفد يؤشر بقوة إلى تمسك الفلسطينيين بالمصالحة، وعودة الشرعية الفلسطينية إلى قطاع غزة.

لقد جردت إسرائيل عدوانها على الضفة أولاً، ثم على قطاع غزة بذريعة اختفاء المستوطنين الثلاثة في منطقة الخليل، لكنها استهدفت بشكل رئيسي تدمير المصالحة الفلسطينية وحل حكومة الوفاق الوطني.

وفشل إسرائيل في ذلك يقف على رأس مؤشرات فشل العدوان على قطاع غزة، فيما يظهر أن القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، لم تساعد حكومة نتانياهو على تحقيق هذا الهدف، خصوصاً لأنه يتعارض مع رؤية هذه الأطراف، للمآلات اللاحقة بعد توقف العدوان.

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وفق هذه الأبعاد والتداعيات، يشكل المحرقة والقنديل في الوقت ذاته.

التغيير على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي يحتاج إلى دم وأثمان باهظة، رغم أن دوافعهما لم يكن من بينها أن يكون الدم والدمار ثمناً لتسوية سياسية لا يستطيعان مقاومتها وإفشالها.

وعلى أرض الواقع أيضاً، لا يمكن تجاهل آثار الدم الغزير والدمار الكبير على المواطنين الفلسطينيين بكثرته، وعلى الإسرائيليين بقلته، من حيث استعدادهم لتقبل وابتلاع أي تسوية مهما انطوت على تنازلات، مقابل تحقيق الكرامة للفلسطينيين والأمن والاستقرار للإسرائيليين، الأمر الذي يسهل على قيادتي الطرفين، الاندفاع نحو تحقيق تسوية سياسية، فإن لم تكونا قادرتين على ذلك أو مستعدتين للإقدام عليه فستكون هناك ضرورة دولية للتسوية.

استناداً إلى ما تركته المجابهة والحراك السياسي الإقليمي والدولي، من آثار على الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل، فإن ثمة اعتقاداً بأن المرحلة القريبة المقبلة، قد تشهد تغييراً في بنية هذا الائتلاف، بحيث يعاد تركيبه بخروج أطراف ودخول أطراف أخرى.

 والشيء ذاته ينبغي أن يقع على الجانب الفلسطيني بطريقة أو أخرى، إذ لا بد من تكييف الوضع القيادي بما يضمن إضعاف المعارضة الفلسطينية للتوجهات السياسية التي تتبنى خط المفاوضات والتسوية.

 

Email