من صفات الرمال المتحركة أن من »يعلق« بها أو يضع قدميه في أطرافها لا تلبث أن تبتلعه شيئاً فشيئاً، ويغوص أكثر فأكثر كلما زاد من حراكه، فمحاولات المنكوب بها للخروج منها وتحركه وجهوده، تزيده تورطاً وتدخله إلى جوف هذه الرمال. ويبدو أن الأزمة السورية أصبحت رمالاً متحركة، وأخذت تغرق كل من يلامسها، وتبتلعه كلما تحرك أكثر، وهذا ينطبق على النظام السياسي السوري وعلى المعارضة السورية والدول والتجمعات الأخرى. وعندما بدأت السلطة السورية، في بداية الانتفاضة، تستخدم العنف وتمارس القتل والتدمير بلا مسؤولية، فإنها وضعت قدميها في الرمال المتحركة وأخذت تغرق شيئاً فشيئاً، فيزيد عنفها وتدميرها على أمل أن تتجنب الاختناق، إلا أن هذه الممارسات كانت تقودها إلى مآزق عديدة جديدة، تكبر وتستفحل مع حراكها العشوائي.
ولم يحسب النظام أن تجاهله لآلية الرمال المتحركة هذه سيودي به (وبالبلاد والعباد)، وسيُدمر معظم ما بناه الشعب السوري خلال عشرات السنين، ناهيك عن القتلى والجرحى والمعتقلين والمشردين في أصقاع العالم.. لقد أدت غفلة السلطة السورية عن رؤية ما بعد الخطوة الأولى، إلى دخول الرمال المتحركة والتسبب في كوارث هائلة، وها هي الآن غارقة في هذه الرمال وأغرقت معها البلد والشعب، وكان خيرا لها إما أن تبتعد عن الرمال المتحركة بتجنب الأوهام والرؤى الخاطئة، أو تستجيب لمطالب الناس وتحترم حقوقهم وكرامتهم. والمفارقة هي أن هذه السلطة، رغم غرقها المتزايد، لم تزل حتى الآن لا ترى أبعد من أنفها، ولا تصدق أنها تغرق!
ولا يختلف حال المعارضة السورية المسلحة كثيراً عن حال النظام، فهي بدورها تسير بلا هدى، ولا تملك إلا أن تتحرك كيفما كان، وهذا يجرها أكثر فأكثر إلى الغرق أيضاً في الرمال المتحركة، فهي لا تعرف أهدافها بوضوح حتى غدت المناوشات والحروب الجزئية والمحلية هي الهدف، وتقطعت أوصالها فلم يعد من رابط تنظيمي يربط أطرافها، وبالتالي فهي تفتقر للمركزية في التخطيط وفي القيادة، كما انقطعت صلاتها بالمعارضة السياسية، وغدت تماماً مثل ذاك الذي وضع قدمه في الرمال المتحركة.
أما المعارضة السياسية فبدورها ضاقت زاوية رؤيتها حتى أصبحت بالكاد ترى، ولذلك غاصت في هذه الرمال، من خلال فقدان الرؤية الاستراتيجية ووحدة الصف، وعدم فهم السياسة الإقليمية والدولية، وأشغلت نفسها بالاجتماعات التي لا جدوى منها، والتصريحات والمناكفات بين أطرافها، والتسابق إلى إرضاء الممولين، وصار كل فصيل منها يعمل ليعترف به الآخرون خارج الحدود على أنه ممثل الشعب السوري، وأحياناً لا يقبل بأقل من الممثل الشرعي والوحيد، مع أن بعض أعضائه لم يزر سوريا منذ عقد ولم يتواصل مع فصائل المعارضة الأخرى، أو مع الناس ومع المنتفضين. وهكذا بعد أن بدأت هذه الفصائل كفصائل واعدة، بلعتها الرمال المتحركة وصار همها إنقاذ نفسها من الموت لا إنقاذ الوطن والشعب، وكلما تحركت أكثر غاصت أكثر في الرمال.
أما الدول الخارجية، وخاصة الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فلم تحسب حساباً بدورها للرمال المتحركة، وسمعت منذ الأيام الأولى للانتفاضة السورية الرأي الإسرائيلي القائل بعدم استعجال المساعدة على إطفاء الحريق السوري، لأن المصلحة (الإسرائيلية والغربية) تقتضي أن يُترك السوريون ليدمروا بلدهم، وهذه فرصة لن تعوض للتخلص منهم، وفي ضوئها تقاعس الأميركيون والأوروبيون عن العمل الجاد لخنق الأزمة في مهدها، وتبنوا مواقف مواربة من شأنها الظهور بأنهم يعملون لحل الأزمة دون أن يحلوها، وما زالت مواقفهم كذلك، حتى خطفتهم بدورهم الرمال المتحركة، وسيطر المتطرفون والإرهابيون على الأرض وأقاموا دولة، وشعر الأوروبيون والأميركيون هذه المرة بالمخاطر والأخطاء الجسيمة، ولكن بعد فوات الفرصة وغرقهم في الرمال.
وحتى السياسة الروسية التي ناصبت الشعب السوري العداء، وهددت باستخدام الفيتو ضد إدخال المساعدات إلى المدنيين السوريين، تجرعت كأس العلقم في إرسال مساعداتها إلى الروس الأوكرانيين، ولا شك أنها الآن تحسب حساباً لجحافل الإرهاب التي لم يعد يفصلها عن القوقاز (الروسي) سوى قفزة، إذا حصلت يدرك أساطين السياسة الروسية عندها أي خطأ ارتكبوه بسبب المماطلة في حل الأزمة السورية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.