لا أراني أظلم الفلاسفة العرب المعاصرين الذين بحثوا وألفوا في مسألة »نقد العقل«، بقولي إنهم أضاعوا خارطة الطريق ولم يحسنوا استثمار الإمكان الذي فتحه الفيلسوف الألماني كنط (1724-1804)، في ثلاثيته: نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد الحاكمة! لنتأمل ما أنجزه كنط وما أنتجه المفكرون العرب، فهناك فارق كبير في الرؤية والمنهج، كما في العدة والحصيلة.
1- من حيث المنهج، ما فعله فيلسوف التنوير (ولا تنوير من غير نقد)، هو التوجه بنقده لا نحو المدارس والمذاهب الفلسفية والفكرية كما كان يجري النقد من قبل، بل استهدف العقل نفسه بوصفه مصدر المعرفة ومعيارها وأداتها، وربما غايتها.
من هنا أخضع العقل لمحاكمة صارمة، ورسم خريطته بتبيان الحد الفاصل بين الممتنع والممكن: في أي مجال يتوه العقل ويخفق؟ وفي أي ملعب يثمر ويصدق؟ وفي المقابل، ذهب أكثر فلاسفة النقد عندنا إلى أن مشكلة العقل تكمن خارجه، ومن هنا تحدثوا عن اغتيال العقل واعتقاله، أو اجتياحه. ومنهم من تحدث عن اجتياحه من الخارج، وأعني بهم الذين ردّوا أزمة العقل العربي إلى غزوه من جانب ما سمّوه »العقل المستقيل« أو اللامعقول العقلي.
وهذا اللامعقول، في رأيهم، يتمثل في ما نقل إلى الثقافة العربية من الفلسفات والعقائد القديمة، كالعرفان اليوناني والإشراق الفارسي والتصوف الهندي.
وكأن العرب كانوا أصحاب عقول سليمة صحيحة (محضة بلغة كنط)، لولا أن تعرضت للغزو من الخارج على نحو أدى إلى إفسادها وتخريبها! وبهذا تراجع نقاد العقل عن المنجز الكنطي النقدي والتنويري، لأنهم حسبوا أن مشكلة العقل تأتي من خارجه، في حين أن مشكلته هي داخلية، بنيوية.
2- أما على صعيد الرؤية، فإن كنط تحدث عن العقل عامة، من غير تخصيص يتعلق بهوية قومية أو دينية أو جغرافية، ولذا فإن خطابه عابر للتقسيمات العرقية واللغوية والثقافية.. في المقابل، نجد أن نقاد العقل عندنا وقعوا في فخ التجنيس والأسْلـَمة للعقول والعلوم والفلسفات، بكلامهم على عقل عربي (الجابري) أو إسلامي (أركون) أو غربي (صفدي)، في حين أن نتاج العقل من النظريات والمفاهيم لا هوية له.
بهذا المعنى رجع نقاد العقل إلى ما قبل كنط وديكارت، مع أن النقد تجاوزهما، بتحقيق نقلة نوعية مع نقد النقد، تمثلت في الانتقال من نقد العقل إلى نقد النص، ومن البحث عن شروط الإمكان إلى خرق الشروط، ومن معرفة الحقيقة إلى خلق الوقائع وإنتاج الحقائق. بل إن نقاد العقل (العربي والإسلامي والغربي) عادوا بنا إلى ما قبل الفلاسفة والعلماء القدامى في الثقافة العربية، لأن هؤلاء على اختلاف اتجاهاتهم، أكانوا فلاسفة أم متكلمين أم فقهاء، تحدثوا عن العقل بصفته ميزة الإنسان وأعدل الأشياء قسمة بين الناس.
نحن إزاء مقولات وثنائيات فقدت مصداقيتها، بقدر ما تنطوي على قدر من الزيف والخداع.
3- ثمة فرق رابع بين نقد كنط ونقد فلاسفتنا.. لم يتصرف فيلسوف النقد كمناضل يريد تغيير العالم، بل كفيلسوف يدرس ويحلل أو يفكك مشكلات تتعلق ببنية العقل، أو طبيعة المعرفة، أو معايير الحقيقة، أو ماهية الواقع. في المقابل، نجد أن فلاسفة العرب غلـّبوا هواجس التحرير والتغيير على مشاغل المعرفة ومساحات التنوير. ولكن لا تحرير من غير تنوير، ولا تغيير من غير فهم العالم وإنتاج معرفة بالواقع.
4- أصل إلى الحصيلة المعرفية، وهنا أيضاً الفارق بيّن وواضح.
فما أنجزه كنط عبر نقده، هو ابتكار عدة مفهومية جديدة بمفرداتها وتراكيبها، وثنائياتها: القبْلي والبعْدي، الحكم التركيبي، المتعالي والمحايث، شروط الإمكان.. بينما نجد أن النقاد العرب، لكونهم ضيعوا خارطة الطريق، لم يفلحوا في فتح إمكانات جديدة تتيح تطوير عدة الفهم أو صيغ العقلنة أو أدوات المعرفة وقواعد المداولة.
لم يستطيعوا الخروج على العالم بأفكار جديدة خارقة (نظرية، معادلة، حقل، منهج، عدة)، تسهم في تغيير المشهد الفكري على الساحة العالمية.
وهكذا فإن الفلاسفة العرب المعاصرين قد تراجعوا، على هذا المستوى أيضاً، عما أنجزه الفلاسفة والعلماء في الحضارة الإسلامية، لأن أولئك أفلحوا في تجديد أو تطوير المسائل والحقول أو المناهج والمفاهيم، وأضافوا عليها إضافات قيمة. من هنا فإن السجال بين المفكرين العرب (كما نجد بنوع خاص بين الجابري وطرابيشي)، لم يكن صورة حديثة للسجال القديم بين الفلاسفة والغزالي أو امتداداً له، إذ غلبت عليه الاعتبارات الإيديولوجية، ولم يكن سجالاً فلسفياً عابراً للهويات.
والسجال المعاصر لا يمكن أن يكون امتداداً للسجال القديم الذي، على خصوبته، قد تم بمنطق التهافت. أما اليوم، فإننا نتعدى، في قراءة النصوص، ما تطرحه وتبرهن عليه، إلى ما تتأسس عليه ولا تقوله. وهذه منطقة خصبة افتتحت للدرس والتنقيب أو الفهم والتشخيص، في ما يخص مسألة الحقيقة والمعرفة والمعنى والعقل والوجود.