لم يتصور نوربرت وينر، عالم الرياضيات الأميركي، وهو يصمم أولى معادلات رياضية في علم «السبرانية» في الأربعينيات من القرن الماضي، أنه يرفع أول معول هدم في «دنيا» عرفها البشر وألِفوها آلاف السنين، لتنتصب بدلاً منها دنيا جديدة، دنيا ضيقة متشابكة لا فيها مسافات ولا أسرار ولا حدود، يمكن فيها لأي إنسان فوق جبال الهيمالايا، أن يصافح إنساناً على ضفاف نهر الأمازون، وقد يحتسي معه فنجاناً من القهوة أو يلعب دوراً في الشطرنج أو يستمتعان معاً بقطعة موسيقية شعبية.
والسبرانية هو علم حديث قائم على دراسة التماثل بين الإنسان والآلة والحيوان والمجتمع، في أداء وظائف التحكم والاتصال، فإذا كان العقل البشري – مثلا - يسيطر على الجسم من خلال شبكة أعصاب عبقرية، فهل يمكن أن نصنع عقلاً إلكترونياً يشبه العقل البشري في وظائفه؟ وقد تبحث السبرانية أيضا طبيعة العلاقة بين عضلة القلب وإطلاق صاروخ إلى الفضاء الخارجي، من ناحية الطاقة الحرارية اللازمة لتشغيل الاثنين.. وهكذا.
والعلماء لا يجيبون عن تلك الأسئلة المعقدة، بالسرحان أو التمني أو الحملقة في الفراغ أو بانتظار الوحي، وإنما بمعادلات رياضية صارمة تضبط أوجه التماثل بدقة متناهية، حتى يمكن نقلها من الإنسان، أكثر مخلوقات الله سبحانه وتعالى إعجازاً، إلى الآلة، ولذلك صارت السبرانية خليطاً من العلوم: طب وفيزياء ومنطق وكيمياء وفلسفة وانثروبولوجيا واجتماع وفنون ورياضيات، وهي التي مهدت الطريق إلى الكمبيوتر والأقمار الصناعية.
وكان الهدف نبيلاً للغاية، وهو تحجيم قدر العنف الذي يمارسه «الوحش» الكامن في كل إنسان، ويدفعه إلى الحروب والقتل والتدمير، وكانت الدنيا وقتها قد خرجت لتوها من حرب عالمية مخيفة، زهقت فيها أرواح ما يزيد على خمسين مليون إنسان، ولجأ فيها الوحش لأول مرة إلى سلاح الإبادة التامة وهو القنبلة الذرية.
وفكر العلماء في أن وجود «وسيلة معرفة واتصال» مع كل سكان الأرض، سوف يهتك الأسرار ويجعل كل سكان المعمورة على دراية كاملة بما يجري فيها في وقت واحد، ورفعوا شعاراً عظيماً «لنجعل العالم كله مجتمعاً مفتوحاً»، فلا تستطيع دولة مهما كانت قوتها أو حاكم مهما بلغ جبروته، أن يتحدى «كل البشر» ويرتكب حماقات ضارة بهم، فالتعتيم كان البيئة المثالية التي تكاثرت فيها كل «المصائب» الإنسانية.
باختصار، كانوا يحلمون بعالم لا يستطيع فيه صاحب القرار أن يستبعد الناس من حساباته، لأن الناس متاح لها إدراك جوانب أي قرار يتخذه، طالما هي تملك أدوات المعرفة والاتصال.
وكان هؤلاء العلماء قد توصلوا إلى حقيقة من تاريخ الإنسان، تفيد بأن المجتمعات المغلقة على نفسها يتدهور حالها وتضعف، وبعضها يتحلل ويموت، وقد حدث هذا مع كل الإمبراطوريات القديمة، فحين كانت مجتمعاً مفتوحاً ازدهرت وتوسعت، وحين انغلقت على نفسها ذبلت وسقطت تحت سنابك غزاة جدد.
ولكن هدف هؤلاء العملاء لم يتجسد كما حلموا وإن تحقق بعضه، لأن الوحش الخبيث الكامن داخل الإنسان، له قدرة هائلة على التشكل والتأقلم، فاستطاع أن يسخر «أدوات الاتصال والمعرفة الحديثة» في أعمال القتل والحروب، ويخرج لسانه لكل الأفكار المثالية.
لكن الدنيا التي بلا أسرار صارت حقيقة واقعة، وفعلا نحن نعيش في عالم مفتوح على مصراعيه، يتمتع بديمقراطية غير مسبوقة في التاريخ، هي ديمقراطية الفضاء الإلكتروني، فضاء بلا حكومة ولا حكام ولا شرطة ولا قضاء، وأي إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء وقتما يشاء.
بل إن هذا الفضاء لعب لأول مرة في التاريخ الإنساني، دور «قائد الثورة» في بعض دول الربيع العربي، خاصة مصر، وكانت الثورة في التاريخ القديم تلزمها عناصر هي: الأسباب، والبيئة الحاضنة، والتنظيم والقائد.
وحين اندلعت ثورة مصر في 25 يناير 2011 بدت بلا قائد، كما لو كانت جسماً بلا رأس، ولم يكن ذلك صحيحاً، إذ كان الفيسبوك (الفضاء الالكتروني) هو القائد الجمعي لها، يحدد موعد التظاهرات، وأماكن التجمع، والهتافات المصاحبة، ووسائل التصرف مع أجهزة الأمن، ثم إعادة تجميع المتظاهرين مرة أخرى حين يتفرق شملهم.
ولهذا لم يكن المتظاهرون في حاجة إلى قائد بالمعنى القديم المتعارف عليه، فقد صنع لهم نوربرت وينر وكوكبة من علماء السبرانية عبر خمسين سنة من الابتكارات «قائدا افتراضيا»، لا يموت ولا يُسجن ولا يهرب ولا يتعب ولا يهتم بمن يتجسس عليه، لأن تعليماته تصل إلى مستقبليها في كل وقت وأي مكان.
لكن هذا الفضاء الإلكتروني أوجد أيضاً ما يمكن أن نسميه ديمقراطية الغوغاء، وأي تصفح لصفحات التواصل الاجتماعي يظهر حرية في التعبير تصل إلى حد الفوضى المطلقة، وأكثر من نصف المعلومات التي تصاحبها لا أساس لها من الصحة، مجرد انطباعات أو ثقافة سماعي لا مصادر علمية لها؛ في الدين والسياسة والتاريخ والدستور والقانون، بل إن المواقع الالكترونية تتبادل الشائعات كما لو أنها أخبار صحيحة، وصار العقل الغوغائي هو صاحب السيادة في هذه الديمقراطية، التي تقلص فيها نفوذ الحكام والقانون.