قرر تنظيم «داعش» إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم وكتبها في المناطق التي يسيطر عليها، وقد أصدر تعليمات صارمة تقضي بالإلغاء النهائي لتدريس التربية الوطنية في المدارس، وهي المواد (أو الكتب) التي تعلم الأطفال هيكلية الدولة وسلطاتها، وأسس الدولة ودستورها، وفصل السلطات، ومعايير الدولة الحديثة، والتقسيمات الإدارية.
كما تقضي تلك التعليمات بإلغاء الدراسات الاجتماعية والتاريخ، باعتبار أن هذا التاريخ سيُكتب من جديد وحسب وجهة نظر التنظيم، التي لخصها في تعليماته بعدم تدريس مفهوم القومية والوطنية، انطلاقاً من أنه لا يعترف بالقومية ولا بالوطنية، فقومية المسلم (من أي جنس أو لغة) هي الإسلام، ووطنيته هي انتماؤه (للإسلام)، وبلد المسلم هو البلد الذي يحكم فيه شرع الله (وأشير هنا إلى أن تعبير شرع الله لا يعني الشرع الإسلامي حسب صحيح الدين.
وإنما شرع الله الذي يراه تنظيم داعش)! كما طالبت التعليمات أيضاً بالإلغاء النهائي لمواد التربية الفنية بمختلف فروعها (الموسيقية والتشكيلية وغيرهما)، والرياضة والفلسفة وفروع الاجتماع المختلفة، وإلغاء تدريس التربية الدينية الإسلامية والتربية الدينية المسيحية، ريثما توضع كتب جديدة لهاتين الديانتين (وقد تكون هذه الكتب تحتوي ديناً إسلامياً جديداً كما يراه داعش)، يبنى على المواقف الاجتهادية المشكوك في صحتها من جهة، التي قيلت في أزمنة بعينها اتصفت بالقمع والظلم والانحطاط والتخلف.
واستطردت التعليمات بالمطالبة بحذف كل ما يتعلق بنظرية داروين من مادة العلوم، وإعادة النظر في ما يدرس من قوانين الفيزياء والكيمياء.
ولقد ذكرتني هذه التعليمات بما جرى خلال القرنين الأخيرين من أيام الاحتلال العثماني للبلدان العربية، حيث كان التدريس باللغة التركية، وكان على العرب أن يرسلوا أبناءهم إذا أرادوا تعلم العربية إلى المدارس الأهلية، حيث تدرس فقط القراءة والكتابة والحساب، وها هي دولة «داعش» تعيدنا إلى ذاك العصر، حيث تلغي مئات السنين من تطور التعليم في العالم، ومن الاكتشافات العلمية.
وأساليب البحث العلمي، وتعيد بلادنا إلى ما قبل الخليفة المأمون، وتمنع عن أجيالنا حتى الاستفادة من علوم الغير وأبحاثهم ومن التطور الإنساني، وتعيد إلينا المصطلح التاريخي الذي كان فيه العلماء هم رجال الدين فقط، والعلم هو علوم الفقه فقط، وكان هذا يمكن فهمه، لولا إصرار «داعش» على أن الدين هو الأحاديث الضعيفة والأساطير والهرطقات ولي عنق صحيح الإسلام.
ألاحظ ثلاثة أخطار أساسية في تعليمات دولة «داعش» التي بدأت تطبيقها في ما أسمتها «ولاية» الرقة السورية وولاية الفرات (التي تضم أراضي سورية وعراقية مثل البوكمال والقائم).
الخطر الأول ينصب على الإسلام نفسه، فهذا التنظيم ودولته يريان الإسلام بمنظور مختلف جداً عن الإسلام الصحيح، ويأخذان أضعف الأحاديث وسقط الفقه، وأسوأ الممارسات في التاريخ الإسلامي، ليصيغ منها ديناً جديداً لا علاقة له واقعياً بصحيح الإسلام ولا بفلسفته.
والخطر الثاني هو العمل على انحطاط التعليم في المدارس ونشر الجهل بين الأجيال، وإبعاد المنهج العلمي وإعمال العقل، ورفض الاطلاع على المنجزات العلمية الإنسانية.
وفي الخلاصة تخريج أجيال بلا علم ولا وعي ولا محاكمة ولا مناهج بحث، أما الخطر الثالث، فهو اللعب بالقضية الوطنية والقومية، من خلال عدم الاعتراف بالانتماء الوطني (الجغرافي) أو لمجموعة تنطق باللغة نفسها، ولها التاريخ نفسه والآمال نفسها والهوية نفسها كما هو الحال الآن، واستبدال ذلك بالانتماء إلى وطن غير موحد الجغرافية، بل من دون جغرافية، ولا تنطبق عليه ولا على شعبه معايير الأمم المعاصرة، كاللغة المشتركة والثقافة المشتركة والتاريخ المشترك والعادات والتقاليد، فضلاً عن الآمال المشتركة.
إن التنظيم ودولته يريدان وطناً افتراضياً، خارج الزمان والمكان، تعود جميع معاييره إلى معيار واحد هو «حكم الشرع»، ومن البديهي أن الشرع هنا هو كما تفهمه دولة «داعش».
لم تأت أفكار تنظيم «داعش» هذه المتعلقة بالقومية والوطن والانتماء الوطني وتعريف الدولة من فراغ، فقد سبقه إليها في الواقع اثنان هما: أبو الأعلى المودودي الباكستاني، وسيد قطب المصري، وكتبا كتباً حول هذا الموضوع.
وقد رفضت شرائح متنورة من تنظيم جماعة الإخوان المسلمين هذه النظريات، فكان جزاؤها أن طُردت من تنظيم الجماعة واتهمت بالردة، لكن هذا المفهوم ذبل وذوى ومات منذ أربعة عقود، وها هي دولة «داعش» تحييه من جديد (وسبحان من يحيي العظام وهي رميم)، وتلغي ما عمل له العرب منذ عهد النهضة، شعوباً ونخباً سياسية وثقافية، وتعيد مفاهيم القومية والوطنية والتحرر والاستقلال إلى مفاهيم عهود غابرة أكل الدهر عليها وشرب.
ولم يتعظ أصحاب هذا الطرح من النتائج المرة التي تحققت في باكستان بسبب فكر المودودي، وفي مصر بسبب فكر سيد قطب، فالأول خيّب آمال غاندي، وأسهم في انفصال باكستان عن الهند، وتركت باكستان وراءها في الهند نحو مئة وخمسين مليون مسلم.
والثاني، أي سيد قطب، أسس للإرهاب، بعد أن كفّر المجتمع وطالب بالعودة للجاهلية، وما زلنا، في البلدان العربية، نعاني من النتائج المرة لفكر سيد قطب، ومعه فكر الإخوان المسلمين المصريين.
إن أقل ما يقال في نتائج تعليمات «داعش» هذه، هو العودة بثقافتنا العربية الإسلامية، وبعقولنا، وبالفكر النقدي عامة، آلاف الخطوات إلى الوراء، والاكتفاء من الأجيال المقبلة بأن تعرف القراءة والكتابة فقط، وتعتبرها (مع حفظ الأوراد والأدعية) قمة الثقافة والتقدم العلمي والمعرفي، والعمل على تخلف الأمة وإبعادها عن الحضارة، والعودة بها إلى عصر الأساطير و«الدروشة» والتواكل، وأخيراً الذل والمسكنة.